روسيا تعيد التوازن إلى العالم د. جلال فاخوري في الفترة ما بين 1950 1990 وهي فترة الحرب الباردة لقيت فكرة دور السلاح النووي وسائر أسلحة الدمار الشامل رواجاً كبيراً حول إمكانية فرض السلام والاعتدال والعقلانية وما زالت هذه الفكرة قائمة ورائجة عند الدول الكبرى حيث تظن هذه الدول أن عوامل الردع الفعّالة يمكن أن تؤمن السلام والهيمنة وإخضاع العالم بالخوف والرهبة. أما بعد انتهاء الدور الربع للإتحاد السوفييتي من حيث كونه قطباً ثانياً مخيفاً وعنيفاً ظهرت الفكرة الأمريكية التي تذهب إلى استحالة استخدام الوسائط العسكرية الروسية لبلوغ الأهداف السياسية ولا منطقية استخدام السلاح الروسي بعد سنة 1991 متناسية أعني الولاياتالمتحدة ما قاله العالم الأمريكي الاجتماعي السياسي ايرلغ فيتشر من أن الشك يدور وسيبقى حول مستوى توازن القوى عملياً وحتى في إمكانات روسيا من ان السلاح الروسي باقٍ وبقوة وقادر على الإبادة وأن عدم الاستقرار يجعل من الضعفاء أقوياء فجأة وأن زوال الاتحاد السوفييتي كنظام او اتحاد ليس مبرراً للذهاب إلى أن الأيديولوجيات زالت. وحرب روسيا على جورجيا وإعطاء دفعة قوية لاستقلال اوستيا وأبخازيا قد فتح للعالم باباً حول ضرورة إنهاء أسطورة القطب الأحادي وأن القوة الروسية قد أعادت التوازن للعالم وأنهت الاختلال في المفاهيم والنفسية العالمية عموماً والعربية والشرق أوسطية خاصة من أن الدور الكبير لأمريكا في استمرار الهيمنة على العالم قد بدأ يتلاشى بشكل مذهل حيث فتح العالم فاه مندهشاً من الصحوة الروسية القوية. ولعل من الأمور الهامة التي لم تعيها الولاياتالمتحدة في اندفاعها إلى الحدود الروسية عن طريق دول الإتحاد السوفييتي السابق تلك المتعلقة بأن هناك تفاهماً بين بوتين كمنفذ للسياسة الروسية وبين ميدييف من ضرورة إنهاء الأسطورة الأمريكية القوية ومن أن الولاياتالمتحدة يصعب الثقة بها وان الروس ليسوا من السهولة بمكان يمكن ترويضهم. هذه الصحوة الروسية بين قادة الكرملين الشباب قد تغير وجه أمريكا في العالم ليس فقط عن طريق نجاحها الخاطف في لجم السياسة الأمريكية الجورجية والأوكرانية بل عودة كلمة ''لا'' لكل ما هو أمريكي. هذه ''اللا'' التي نسيها يلتسين وكل قادة الإتحاد السوفييتي السابق منذ حزم خروتشوف وعناده تجاه أمريكا فقد أعاد حكّام الكرملين الآن المعنى الحقيقي لروسيا القوية وأعادوا المعنى الحقيقي للهوية الروسية وربما سوف يعيدون أكثر الهويات السوفييتية السابقة إلى رشدها من الحد من الاندفاع نحو الولاياتالمتحدة . الروس يفهمون جيداً معنى تأييدهم لإيران ولسوريا ولكوريا الشمالية ولفنزويلا ولكل دولة تصارع الولاياتالمتحدة ويفهمون أن تأييدهم ودعمهم لإيران يعني دعم حزب الله ودعمهم لسوريا لتصمد في وجه الأمريكان ولتبقى مساندة لحزب الله ولحماس ولكافة أشكال المقاومة للأمريكان ولذلك هم يدعمون بالأسلحة الحديثة هذه الجهات والأمريكان يتفهمون معنى قوة النقض ''الفيتو'' الروسي ويتفهمون معنى التحالف الصيني الهندي مع روسيا وربما مع إيران وسوريا وكل أشكال المقاومة جميع هذه الصور تدفع بالمرء إلى التفكير بالسؤال التالي: هل بدأ الانسحاب الأمريكي من العالم؟. وهل هذا الخذلان المستمر في التعاطي مع الملف الإيراني بقوة وعنف وعدم إمكانية التعاطي عسكرياً مع كوريا الشمالية أو سوريا أو دفع إسرائيل لشن هجوم جديد على لبنان جميعها أسباب تشكل قناعة لدى كل عربي أن الرهان على أمريكا قوية باستمرار هو رهان خاسر؟ إن الولاياتالمتحدة تعيش هذه الأيام أزمات داخلية حادة كانهيار الاقتصاد والكساد وإفلاس البنوك والخذلان العسكري في أفغانستان والعراق وانهزام حليفهم مشرف في باكستان وأحرار إيران في التحدي لأمريكا جميعها أقول أسباب موجبة للقول بأن الأمريكان يحزمون أمتعتهم للرحيل الطويل غير العاجل من العالم. فهل اقتنعت الولاياتالمتحدة من أن حزم الروس وإصرارهم على تحديد الغرب بما فيهم أوروبا ليس بالأمر الذي يمكن تناسيه؟. إن تحدي الروس لأمريكا في جورجيا ليس آنياً يمكن بعدها أن تذبل جذوة الاندفاع الروسي ولعل تنديدهم لاتفاقية الصواريخ في بولندا آخذ في التصعيد حيث يقول الرئيس الروسي الذي حسبته أمريكا رجلاً تابعاً لبوتين أن الروس لن يتعاملوا مع بولندا دبلوماسياً. أقول لعل هذا التهديد المباشر والعنيف سوف ينجر على أوكرانيا التي تحاول تحديد تحركات الأسطول الروسي في البحر الأسود والآن أوكرانيا تعاني من مراقبة االبحرية الروسية للبواخر الأمريكية في البحر الأسود. كل هذا ولا تعتبر أمريكا أن الحرب الباردة قائمة وساخنة في آن معاً. فالحرب الباردة أخطر على النفس البشرية من الحرب الساخنة لكونها مدمرة نفسياً دون إشعال الحروب الساخنة، والمطلوب دولياً هو إعادة التوازن للعالم وقد فعلها الروس كما كانوا يفعلونها سابقاً من حيث أنهم كانوا عنصر توازن عالمياً ومتعادل مع الأمريكان نووياً. عن صحيفة الرأي الاردنية 17/9/2008