الجزرة الموجودة والعصا المفقودة في الملف الجورجي د.أحمد القديدي لو أردنا إيجاز القرارات التي خرجت بها القمة الأوروبية التي التأمت يومي الأحد والاثنين الماضيين ببروكسل للنظر في الأزمة بين الاتحاد الأوروبي وموسكو لاخترنا دون تردد هذا الشعار الذي وضعناه عنوانا للمقال. بلى! فالسبعة والعشرون دولة التي تشكل الاتحاد كانت على مدى يومين في العاصمة البلجيكية تبحث عن الجزرة لاغراء الثنائي ( بوتين- مدفيديف) و عن العصا لتخويفهما. والنتيجة التي اتفق عليها أغلب المحللين والخبراء هي أن الجزرة موجودة وأن العصا مفقودة تجاه أزمة من العيار الثقيل تهدد لا فقط ميثاق هلسنكي الذي حاول انهاء الحرب الباردة ولكن أيضا نتائج مؤتمر يالطا الذي قسم غنائم الحرب الكونية الثانية بين غرب تقوده أميركا و شرق تتزعمه روسيا! لقد كرست قمة بروكسل الأوروبية برئاسة نيكولا ساركوزي مدى الحيرة والتذبذب وعدم الثقة لدى القادة الأوروبيين لسبب بسيط ومفهوم ومنطقي هو أن دول الاتحاد الأوروبي وجدت نفسها فجأة في دوامة لعبة خطيرة لم تتوقعها ولم تمهد لها. بل أن أحد الوزراء الأوروبيين ممن أتواصل معهم لم يبالغ حين قال لي هذه الأيام: أن أوروبا اكتشفت مع الأزمة الجورجية أنها تتموقع على الخط الأمامي في المواجهة مع موسكو عوضا عن الولاياتالمتحدة الحليفة الكبرى! ولا تعرف بالضبط ماذا تفعل بالنيابة عن واشنطن! فالمراقبون يجمعون على أن لأوروبا مصالح حيوية مع الجار الروسي الأوروبي القريب تختلف عن المصالح الأميركية، وأن الأمن الأوروبي القومي مرتبط أشد الارتباط بالاستقرار الروسي، وأن الامدادات الروسية بالغاز والنفط تعتبر حيوية بالنسبة لأبرز دول أوروبا، كما أن روسيا تمثل السوق الأضمن والأقوى لمنتجات الاتحاد الأوروبي. أي في النهاية فان موسكو تشكل الشريك المنطقي والطبيعي بالنسبة للقارة العجوز الى أجيال قادمة. وهنا يكمن الحيص بيص الأوروبي أمام الأزمة الجورجية الراهنة. هذه الأزمة تاريخية بكل المقاييس، لأن موسكو استعادت عافيتها بعد انهيار الشيوعية واختارت بعد جورباتشوف و يلتسين اللذين أعلنا موت الاتحاد السوفيتي رجلين آخرين من الجيل الروسي الجديد المشبع بالحنين للأمبراطورية القيصرية زمن نيكولا الثاني لا للأمبراطورية الشيوعية التي عاشت سبعين عاما ورحلت الى غير رجعة. وعلى كل من يشك في هذه الخلفية الأيديولوجية أن يرجع للخطاب الذي ألقاه فلاديمير بوتين عندما زار الكاتب الكبير الروسي الراحل منذ أيام والحائز على جائزة نوبل ( ألكسندر سولجينتسين) حين استرجع لذاكرة الشباب حلم وكفاح الكاتب العبقري بأن روسيا تستعيد روحها الأبدية وتعود لعرش الشرق الأرثوذكسي وقيادة الحضارة السلافية! بقي أن نعرف كيف اندلعت الأزمة ولماذا ونحلل تداعياتها ونفهم أبعادها في عالم متقلب لا يحتاج الى تعقيد المعقد وتأزيم المتأزم. لماذا يفتح حلف شمال الأطلسي الباب في وجه أوكرانيا وجورجيا بعد أن انضمت اليه بولندا وقد كانت هذه الشعوب تابعة رسميا للاتحاد السوفيتي القديم أو تدور في فلكه التقليدي وكانت تشكل جميعا حلف وارسو الذي كان يقف في مواجهة حلف الناتو على مدى نصف قرن من الحرب الباردة ؟ ثم لماذا سكتت موسكو الى حد اليوم عما يعتبره المراقبون عمليات قضم مستمرة لحدودها وسيادتها وأمنها القومي وبطنها الجيوستراتيجي الذي يحميها ؟ وأخيرا لماذا حركت واشنطن بيادقها نحو الخصم في رقعة الشطرنج الخطيرة وهي تدرك أن لصبر الكرملين حدودا معلومة ؟ هل أرادت الولاياتالمتحدة في نهاية ولاية الرئيس بوش كما أدرك بعض المحللين احالة ملف المواجهة مع موسكو الى الاتحاد الأوروبي لتوريط الدول الحليفة في مخططات حلف الناتو و قطع طريق العودة و التراجع في وجه الاتحاد الأوروبي من أجل تحقيق عقيدة المحافظين الجدد الداعين الى التفوق الأميركي الكامل في ظل العولمة و تحت غطاء الحرب على الارهاب ؟ هنا تأتي زيارة نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني الى جورجيا الخميس الماضي لتؤكد أن واشنطن مقرة العزم على الاجابة عن تلك التساؤلات باعطاء اشارات واضحة للرأي العام الأوروبي بأن الولاياتالمتحدة لا تنوي ترك أوروبا وحدها في مواجهة مع موسكو بل انها هي أيضا بدأت تراجع علاقاتها مع روسيا على أساس جديد، أي على أساس غياب الثقة وتوخي الحذر و التعامل مع العملاق القديم بأسلوب جديد. لكن يبقى رأينا الذي عنونا به المقال رأيا أقرب للواقع في الوقت الراهن وهو أن الجزرة ممكنة بيد الغرب لكن العصا حتى الخيزرانية الرقيقة منها تظل مستعصية بالنظر الى عظمة المخاطر و قوة العزم الذي يبديه الثنائي الحاكم في روسيا وهشاشة الرئيس الجورجي ساكاشفيلي الذي وصل الى السلطة مثل بعض نجوم الثورات البرتقالية في شرق أوروبا أي بارادة أميركية وأدوات تلك الارادة من مال واعلام و حرب نفسية بالغة التخطيط ! عن صحيفة الوطن العمانية 10/9/2008