ان الاستراتيجية المصرية تقوم علي اختيار السلام القائم علي أسس متينة وصلبة تستدعي وجود الأمن بمعناه الشامل فلا سلام دون أمن ولا أمن دون سلام.
و الملاحظ انه في جميع المعارك التي خاضتها القوات المسلحة المصرية فإنها كانت حروبا دفاعية وفق قواعد القانون الدولي ووفق الشرعية الدولية.
ان القوات المسلحة المصرية خاضت معارك عديدة وفق استراتيجية سياسية وخطط عسكرية معينة لتحقيق أهداف واضحة يؤيدها القانون الدولي في تحقيق السلام القائم علي العدل أو لاسترداد الأرض.
وهي في كل مراحلها تنفذ توجيهات القيادة السياسية المصرية التي لا تهدف إلا للسلام العادل والدائم في المنطقة العربية والعالم.
ان حرب أكتوبر 1973 كانت بمثابة النهوض بعد الانهيار والقيام بعد التقاعس والنشوة بعد الحسرة وتجئ ذكري حرب أكتوبر المجيدة تأكيدا علي قيم ومعان ودروس عظيمة.
حققت هذا النصر المبين. الذي أعاد للوطن كرامته. وللعسكرية المصرية امجادها ورفع هامات العرب. وصحح مسيرة التاريخ. و فتح الطريق لسلام عادل وشامل.
ان هذا الإنجاز الرائع الذي حققته قوات مصر المسلحة الباسلة في حرب أكتوبر المجيدة. هو شهادة مجد لشعب مصر العظيم. الذي تحمل اعظم التضحيات وأغلاها. وهو يخوض معركة حياة ومصير في ظروف بالغة الصعوبة صونا للعرض وثأرا للكرامة.
فرفض الشعب قبول الهزيمة والرضوخ للأمر الواقع والصمود لكل المحاولات التي استهدفت تكريس الاحتلال وتثبيط الهمم. ومقاومته بعناد دعاوي اليأس والهزيمة. التي حاولت كسر إرادته وإضعاف قدرته علي تحرير أرضه. كي لا يكون هناك بديل سوي الرضوخ والاذعان.
فقد اثبت المصريون في حرب أكتوبر قدرة فائقة علي الإمساك بزمام المبادأة فلأول مرة يقوم العرب بالهجوم ولا ينتظرون الرد علي الأفعال المتخذة ضدهم وذلك فضلا عن حساباتهم الدقيقة في التخطيط. ودقتهم المتناهية في التنفيذ وبراعتهم في ايجاد حلول بسيطة لمشاكل مستعصية.
لكن وجه الاعجاز الحقيقي كان في بسالة الرجال. الذين غمرتهم روح التضحية والفداء. وهم يقتحمون اصعب الموانع والمواقع واثقين من النصر المبين.
ولقد كان من مأثر حرب أكتوبر المجيدة. انها بدأت علي الجبهتين المصرية والسورية في توقيت واحد. وتنسيق مشترك. واكتملت به عناصر مفاجأة استراتيجية كان لها وقع الصاعقة.
مكنت العرب لأول مرة من الاحتفاظ بزمام المبادرة ليحققوا نصرا عظيما مؤزرا. زاد من روعته تضامن العرب من الخليج إلي المحيط.
ولقد توجت الحرب نضال العرب القومي. من أجل استرداد كرامتهم وفرضت حقائق راسخة. أكدت للجميع ان العرب لن يكونوا ابداً جثة هامدة بلا حراك كما تصور البعض.
وان حالة اللاسلم واللاحرب. لا يمكن ان تستمر إلي الأبد وان القوة ليست حكرا علي طرف دون آخر وان الحدود الآمنة لا يضمنها التوسع. ولا تضمنها الموانع الجغرافية والمواقع الحصينة. وإنما يضمنها العدل واحترام حقوق الآخرين.
فقد صححت الحرب موازين القوي. وغيرت مسار الصراع العربي الإسرائيلي وفرضت علي العالم ضرورة ايجاد حل حقيقي لأزمة الشرق الأوسط.
*** وكأي حدث كبير في التاريخ يقلب الموازين بين يوم وليلة لم تؤد حرب أكتوبر إلي الهروب فقط من واقع حرب 67 المنكسر. بل انتجت واقعا جديدا فكانت هذه هي البداية التي اتخذ فيها الجيش المصري زمام المبادرة الاستراتيجية والتكتيكية ايضا بدلا من ان تواصل سياستها التقليدية والالتزام برد الفعل.
كما انها رغم التفوق التكنولوجي للخصم الإسرائيلي استطاعت هذه القوات ان تجبره في الأيام الأولي من المعركة علي الفرار من أراض اعتقد انها محصنة ومنيعة.
ثم ان هذا الحدث ارتكز علي المفاجأة للسيطرة علي حاجز عسكري حصين وهو خط بارليف وكذلك عبور العائق المائي المتمثل في قناة السويس.
ثم إن هذا الحدث شهد مظهرا رائعا للوحدة العربية الفعالة وليست التي نراها الآن من احاديث وأقاويل بل انها وقتها كانت فعلية وذلك عن طريق التنسيق بين الجبهة العسكرية بقرار هجوم الجيوش والجبهة الاقتصادية السياسية بقرار حظر البترول.
كانت هذه قرارات حاسمة فعلا ذات أبعاد متعددة وبناء علي تخطيط جيد انتهت بفاعليات مؤكدة فأستمر التخطيط لهذه العملية لمدة طويلة وبدأ بعد حرب 1976.
كان المبدأ العام كما اعلنه الرئيس جمال عبد الناصر "ما أخذ بالقوة فلا يسترد إلا بالقوة" ولذلك بدأ إعداد الجيش علي أساس مهني متميز. ليس فقط بعيدا عن تسييس الجيش الذي ميز فترة عبد الحكيم عامر في الستينيات.
ولكن ايضا لرفع مستوي التعليم بين المجندين الذين صار عدد كبير منهم من الجامعيين. وقد أصدر جمال عبد الناصر قرارا بأن أي قائد دبابة أو مسئول عن معدات إلكترونية يجب ان يكون ليس فقط خريجا جامعيا. ولكن من المستحب ومن الأفضل ان تكون شهادته في المجال الهندسي.
وكنتيجة لذلك فان من ال 800 ألف الذين كانوا تحت السلاح في حرب 1973 بلغ عدد الجامعيين بينهم 110 آلاف جامعي وهنا نري انه لم يختلف مستوي التعليم فقط عن جيش ما قبل 1967 ولكن اختلفت ايضا اهمية التدريب وجديته.
فمثلا يقول رئيس الأركان سعد الشاذلي وقت الحرب ان الضغط والارهاق وكثرة الحوادث بين الطيارين بلغ مداه في عام 1970 بحيث ان القيادة العسكرية اضطرت لتقليل هذا العبء. ولكن طالما كان هناك هدف محدد يجب الوصول إليه.
وكان هذا يعني ان فترة التدريب والاستعداد ستكون بعيدة المدي حتي نيل ذلك الهدف واهم مؤشر علي اختلاف جيش 73 عن جيش 67 هو ما قاله جنرال اسرائيلي عندما تعجب أحد الصحفيين في 73 مما حدث للجيش العبري الذي تعود علي إحراز الانتصارات الساحقة في 67.
وتساءل عن سبب التغيير. فقد رد الجنرال إسرائيلي قائلا: لم يتغير الجيش الإسرائيلي ولكن ما تغيير هو الجيش المصري.
وجزء هام من التخطيط المحكم والدقيق هو تناسب الهدف المرجو الحصول عليه مع القدرات والموارد المتاحة. فمثلا مادام كان هناك عدم يقين عن المدة المطلوبة لتدارك الهوة في العتاد والتدريب بين الجيش المصري والجيش الإسرائيلي.
تم إعداد أكثر من خطة عسكرية كبدائل تتناسب مع الوضع الحقيقي للقوات عشية اتخاذ القرار وفي النهاية كانت هناك خطتان: خطة لهجوم محدد يستولي علي خط بارليف المنيع ويتوغل لمدة 6-8 أميال في شبة جزيرة سيناء علي ان يبقي في دائرة نطاق صواريخ سام التي تحمي القوات المهاجمة من القوة التدميرية للطيران الإسرائيلي في هذا النطاق .
و في مواجهة هذه الخطة التي عرفت باسم "المآذن العالية" تم وضع خطة أوسع عرفت باسم العملية "41" كانت تسمح بالتوغل إلي وسط سيناء إلي حوالي 30-40 ميلا حيث الممرات الاستراتيجية التي تتحكم في هذه المنطقة الصحراوية.
***
كانت كل خطوة بالطبع تتطلب استعدادات وامكانات مختلفة. ورغم التشكك في تنفيذ العملية 41 في فترة قصيرة بسبب الغليان الشعبي الضاغط. إلا انها استبقت لسببين: الأول: وهو وسيلة لاقناع السوفيت لإرسال أكبر كمية من العتاد المتقدم.
الثاني: لاقناع الحليف الاستراتيجي في هذه الحرب سوريا بأن الجبهة المصرية ستكون شديدة النشاط حيث تمنع القوات الإسرائيلية من تركيز نيرانها علي الجبهة الشمالية.
ولكن في بداية 1972 أعد الفريق أحمد إسماعيل. الذي كان مديرا للمخابرات العامة. تقييما للموقف السياسي والعسكري لكي يبين الهوة في القدرات والتجهيزات بين الجيشين المصري والإسرائيلي.
وحذر من مغبة اي هجوم عسكري مصري ذي أهداف طموحة في هذه الظروف ثم لما عين أحمد إسماعيل وزيرا للدفاع في أكتوبر عام 1972 استقر الأمر علي خطة الهجوم المحدود "المآذن العالية" التي سميت فيما بعد ببدر.
واستبعدت فكرة الهجوم الموسع للاستيلاء علي المضايق حتي السادات نفسه الذي كان يفضل الخطة الموسعة اضطر للرضوخ لرأي القادة العسكريين وان يعمل في نطاق الخطة العسكرية التي تسمح بها امكاناته. وفي الواقع ان الأمر العسكري بالهجوم الذي أرسله الرئيس للقوات قبل بداية الحرب كان انعكاسا لهذا التغيير في فكر الرئيس.
والتلازم الوثيق بين المعلومات الدقيقة والتخطيط المحكم كأسس لنجاح القرار يمتد ليكون تلازما مماثلا بين التخطيط والتنسيق ويتضح هذا بجلاء علي المستوي العسكري والمستوي الاقتصادي السياسي.
في وثائق الخارجية البريطانية يقول السفير البريطاني في رسالة سرية لوزارته "كان الهجوم المصري الذي ادي إلي نشوب الحرب غير متوقع بالمرة وكان الهدف الأول للسادات من شنه هو ايجاد قوة دفع تفضي إلي حل دبلوماسي للمشكلة العربية الإسرائيلية ولكن هذه العملية كانت لها أهداف أخري.
من بينها القضاء علي الأساطير التي كانت سارية حول مناعة إسرائيل وكذلك مفاهيم إسرائيل الاستراتيجية ولم يكن هناك مراقبون خارجيون يعتقدون ان الجيش المصري أمامه فرصة لخوض حرب أخري مع إسرائيل.
وكانت قلة من المصريين هي التي تعتقد ذلك "وأوضحت الوثيقة انه لم يكن هناك سوي 90 دبابة بين المقاتلين المصريين وتل أبيب ومع ذلك خاض المصريون حربا بطولية حققوا فيها النصر المبين وحطموا الاساطير عن مناعة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر فقد قهره المصريون.
*خبير في الشئون السياسية والإستراتيجية جريدة الجمهورية 5/10/2010