خضير بوقايلة مثل البركان يهدأ ثم يثور ويفور لكنه لن يخمد نهائيا مهما طالت فترة السبات. ذلكم هو ملف المفقودين أو المختفين قسريا في الجزائر أيام الحرب الداخلية التي أعقبت إجهاض المسار الديمقراطي بداية سنة 1992.
بعد 11 عاما على قانون الوئام المدني وخمس سنوات على ميثاق السلم والمصالحة الوطنية لا يزال ملف المفقودين نقطة سوداء على خد النظام الحاكم في الجزائر، فلا عمليات التجميل ولا محاولات إخفاء هذا (العار) أفلحت في تبييض وجه النظام ومسح سود صحائفه.
الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بذل جهودا مضنية وأضاع وقتا كبيرا من أجل إعادة البلد إلى عهد ما قبل الانقلاب الأمني، لكن كل ما فعله لم يكن أكثر من رقص على الحبال وتقديم وصفات أسبيرين تخفف الألم ولا تعالج أسبابه.
فهو يريد أن يعود السلم إلى البلد ويعيش الناس في وئام ومحبة، الجميع خرافا وذئابا حاول إلباسهم ثوبا موحدا معتقدا أن ذلك سيحل المشكلة ويقوده مباشرة إلى مصاف العظماء ويدرجه ضمن قائمة الفائزين بجائزة نوبل للسلام.
وما حصل هو أن الثوب الموحد اختلط على بعض الناس وقتا معينا ثم سرعان ما اكتشف العالم أن الذئب لا يمكن أن يتحول إلى خروف وديع لأنه صار يحمل صوفا يغطي أنيابه ومخالبه.
ليست كل الخطوات التي طرأت خلال فترة حكم الرئيس بوتفليقة كارثية وخاطئة، لكن المساوئ عندما تكثر لا بد أن تغطي على المحاسن كما أن الحلول الخاطئة ومحاولات تجاوز المشكلات الأساسية لا بد أن تقود أي مسار إصلاحي في نهاية المطاف إلى مأزق حقيقي.
وهذا ما برز اليوم مع عودة التصعيد في ملف الاختفاء القسري ومحاولات نقل الاحتجاج مجددا إلى المنظمات الدولية بدرجات أكثر حدة، وهو ما يمكن أن يحدث أيضا آجلا أم عاجلا مع ملف (تائبي) الجماعات المسلحة.
وقد حاول محررو الميثاق من أجل السلم والمصالحة الوطنية الصادر سنة 2005 أن يدرجوا معضلة المفقودين ضمن مسعى المصالحة من خلال اعتراف واضح بوجودها، لكن من غير أن يتجاوز ذلك إلى تحديد الأطراف المسؤولة عنها.
فنقرأ في ديباجة الميثاق أن (ملف المفقودين المأساوي يحظى باهتمام الدولة وهو محل عناية خاصة قصد معالجته بالكيفية المواتية)، وأن (مأساة الأشخاص المفقودين هي إحدى عواقب آفة الإرهاب التي ابتليت بها الجزائر).
ثم تذهب الوثيقة إلى أن (تلك الافتقادات كانت في العديد من الحالات بفعل النشاط الإجرامي للإرهابيين الذين ادعوا لأنفسهم حق الحكم بالحياة أو الموت على كل إنسان جزائريا كان أم أجنبيا) والحديث عن العديد من الحالات يعني أن هناك أيضا حالات أخرى عديدة أو أكثر أو أقل عددا ليس للإرهابيين يد فيها.
ثم تنتقل مبادرة السلم والمصالحة إلى تحديد (الإجراءات الرامية إلى تسوية ملف المفقودين تسوية نهائية)، من خلال ثلاث خطوات:
أولاها أن (تتحمل الدولة على ذمتها مصير كل الأشخاص المفقودين في سياق المأساة الوطنية).
ثانيا أن (تتخذ الدولة كل الإجراءات المناسبة لتمكين ذوي حقوق المفقودين من تجاوز هذه المحنة القاسية في كنف الكرامة).
وأخيرا أن يصنف الأشخاص المفقودون ضمن (ضحايا المأساة الوطنية) وأن تحفظ لذويهم حقوقهم في التعويض).
والآن وبعد خمس سنوات من إقرار الميثاق، ماذا أحرز ملف المفقودين من تقدم؟
بعد التحركات التي طرأت في الأيام الأخيرة يمكن القول إن الملف عاد إلى نقطة الصفر، فالجمعيات المعنية عادت إلى تصعيد لهجتها والتهديد باللجوء إلى المنظمات الدولية مثلما بدأت التحركات الجماعية على غرار التظاهرة الاحتجاجية أمام السفارة الجزائرية في باريس.
مهمة (تطييب خاطر) أهالي المفقودين خلال سنوات الهمجية أوكلت إلى المحامي فاروق قسنطيني رئيس اللجنة الاستشارية لحماية وترقية حقوق الإنسان بعد أن أخفق سلفه رزاق بارة رئيس الديوان الوطني لحقوق الإنسان في مهامه.
وبعد أن تغيرت مهام الديوان أيضا، علما أن الديوان واللجنة الاستشارية عنوانان لجهاز واحد وضع تحت وصاية رئاسة الجمهورية في إطار مسعى النظام تبييض وجهه الحالك.
وقد بذل المحامي قسنطيني من جهته جهودا جبارة من خلال وسائل الإعلام وتحركات الكواليس من أجل إنجاز المهمة بأقل خسائر ممكنة، وكان الاعتقاد السائد لديه أن أهم خطوة لإخماد أنفاس هذا الملف الشائك والمأساوي هي في إقناع عائلات وذوي المفقودين بقبول التعويضات المالية المقترحة عليهم ثم يدفن الملف نهائيا إلى غير رجعة.
وقد صرح وكيل النظام لدى عائلات المفقودين أن 95' من أهالي المفقودين قبلوا التعويضات مقابل أن تسلم لهم وثائق إدارية تؤكد وفاة ذويهم دون تفاصيل أو تبعات أخرى.
علما أن كثيرا من أبناء المفقودين عاشوا لسنوات عديدة مأساة حقيقية أثرت على مسار حياتهم بسبب أن الإدارة ترفض تسليمهم وثائق هوية دون الرجوع إلى آبائهم الذين بقيت أوضاعهم معلقة، فلا هم مصنفون ضمن الأموات ولا أحد يثبت لهم أنهم لا يزالون أحياء.
والآن وبعد لجوء السلطات العمومية إلى منع علائلات المفقودين من تنظيم تجمعهم الاحتجاجي الأسبوعي أمام مقر لجنة حقوق الإنسان وما تلاه من قرار الجمعيات المهتمة بالموضوع تصعيد الاحتجاج خرج المحامي فاروق قسنطيني ليقول للعالم إنه قد مسح يديه من هذا الملف وما كان يفعله في السابق إنما كان اجتهادا منه لاعتبارات إنسانية بحتة.
مضيفا أن معارضته لمواصلة عائلات المفقودين في تنظيم الاحتجاجات والاعتصامات أمر يسيء إلى سمعة الجزائر، وكأن ملف المفقودين يزين صورة الجزائر.
عائلات المفقودين يؤكدون أنهم لن يتنازلوا عن حقهم في التوصل إلى حقيقة مصير أهاليهم ولو تطلب الأمر سنوات أخرى من النضال على كافة الأصعدة، ومبعث ذلك ما بحوزتهم من وثائق أو شهادات تثبت أن كثيرا من ذويهم المفقودين شوهدوا لآخر مرة وهم يساقون من طرف ممثلين عن هيئات أمنية نظامية.
السلطات العمومية ومحاميها من جهتهم يعترفون بوجود حالات اختفاء قسري تورط فيها أعوان أجهزة الأمن النظامية، لكن الاعتراف لم يتجاوز حد التصريح الشفوي، أما ما يجب أن يتبعه من تفاصيل عن مصير هؤلاء البعض من المفقودين ومحاسبة للمتورطين في اختطافهم وإخفائهم فلم يحدث.
الرئيس بوتفليقة لم يخف تحرجه من هذا الملف المأساوي الشائك، وهو ما جعله يتفادى التطرق إليه مباشرة ولا البحث الجدي عن حله حلا عادلا وفق ما تقره القوانين والأعراف الإنسانية، وهو لم يتحرج يوما من الرد على بعض من سألوه عن مصير المفقودين بالقول (إنهم ليسوا في جيبي).
وكان هذا الرد المستفز دليلا كافيا لأهالي المفقودين على أن بوتفليقة لا يريد أن يكون رئيسا لكل الجزائريين ولا أن يجسد مخططه الرامي إلى إعادة السلم والوئام إلى ربوع الجزائر.
لا أحد يشك في أن الخوض في ملف المفقودين بما يؤدي إلى إظهار الحقيقة الكاملة حول هذا الموضوع الشائك من شأنه أن يؤدي إلى تصادم مع القيادات الأمنية.
وهذا طريق عدل بوتفليقة عن السير فيه ولو كلفه الأمر قطيعة مع الشعب، فهو يعلم علم اليقين أن منصبه لن يضمنه له لا الشعب ولا التحالف مع قضاياه الأساسية.
أما الأخطر في قضية المفقودين فهو ما قرأناه قبل يومين من أن عائلاتهم بصدد التحضير لإنشاء جمعيات ومنظمات لأبناء المفقودين يواصلون مسيرة النضال من أجل الحقيقة والعدالة.
وهو ما يعني أن جيلا جديدا صاعدا سيتولى الأمر وسيقود معركة أخرى مع السلطات العمومية، معركة لن تزيد إلا إساءة إلى سمعة الجزائر وسجلها الداكن في مجال حقوق الإنسان والحريات، وتبعد الجزائريين أكثر عن نهج السلم والمصالحة الذي ينشدونه منذ سنوات طويلة.