اجتماع لسلام لن يجيء .. واستعداد لحرب قادمة جلال عارف منذ البداية كانت الشكوك تحيط ب«مبادرة» الرئيس الأميركي بوش بالدعوة لاجتماع دولي في الخريف حول القضية الفلسطينية. فلا تاريخ الرجل ولا سياسة إداراته تمنحان الأمل في الاختراق التاريخي الذي بدأ الحديث عنه فور الإعلان عن هذا الاجتماع.
ولا ظروف المنطقة وما يجري فيها تسمحان بالحل «العادل» المنشود. صحيح أن بوش سبق أن ألزم نفسه بحل «الدولتين» عندما كان يحتاج لتغطية عربية لسياسة معادية للعرب وخاصة عند غزو العراق.
لكن الصحيح أيضا أن حل «الدولتين» سبق طرحه من قبل إدارات أميركية سابقة، والصحيح انه لم يحدد حدود الدولتين ولم يلزم إداراته بقرارات الشرعية الدولية، ولا بقرارات المؤتمرات الدولية السابقة، ولا بالسياسة التي سبق لأميركا نفسها أن بشرت بها والقائمة على مبدأ الأرض مقابل السلام، بمعنى الانسحاب إلى حدود 67 مقابل السلام مع العدو الإسرائيلي.
وإنما ترك الرئيس الأميركي ذلك للتفاوض الذي لا يعني في ظل موازين القوى الحالية إلا إملاء إسرائيل لشروطها وضياع القدس وابتلاع أجزاء من الضفة وإبقاء المستوطنات ووضع الشروط التي تجعل من الدولة الفلسطينية الموعودة مجرد كيان هزيل متقطع الأوصال مرتبط بالدولة الصهيونية وتحت سيطرتها الكاملة اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، ومع دفع الثمن الفادح لهذا «الإنجاز !!» الموعود، وهو التخلي عن حق العودة وتصدير مشكلة اللاجئين إلى العرب بفرض توطينهم خارج فلسطين.
وتبني بوش لحل «الدولتين» الموعد (و هو في حقيقته مطلب إسرائيلي للحفاظ على «نقاء» الدولة الصهيونية) لا يمكن أن يغسل أيدي الرئيس الأميركي وإداراته من أسوأ سياسة أميركية يمكن تصورها ضد الفلسطينيين.
فلم تشهد الإدارة الأميركية من قبل مثل هذا الانحياز الفاضح الكامل والمعلن لصالح إسرائيل كما حدث منذ تولي بوش الابن مقاليد الرئاسة الأميركية، ليضع السياسة الأميركية في المنطقة العربية بكاملها رهينة لدى إسرائيل وليدشن تحالفاً لم يسبق له مثيل جعل من السفاح شارون هو المحدد الأساسي للسياسة الأميركية تجاه العرب، وليتماهى الموقفان الأميركي والإسرائيلي في هذا الشأن بصورة غير مسبوقة، ولتكون النتيجة خاصة بعد 11 سبتمبر هي وضع العرب جميعاً في قفص الاتهام.
وتحويل منظمات المقاومة الوطنية المشروعة ضد الاحتلال الإسرائيلي إلى منظمات إرهابية، وتحويل الصراع العربي الإسرائيلي إلى جزء من الحرب «المقدسة» التي أطلقها الرئيس الأميركي انطلاقاً من نظرية اليمين الصهيوني الأميركي التي تقوم على أن سيادة أميركا للعالم ينبغي أن تتأكد بالحرب الشاملة دفاعاً عن الحضارة الغربية «المسيحية اليهودية» ضد أعدائها وفي مقدمتهم العرب المسلمون.
هذا الرجل الذي قاد مثل هذه السياسة المهووسة بالقوة والمحكومة بالفشل..هل يمكن أن يتحول بين يوم وليلة إلى رسول سلام يبحث عن مصالحة تاريخية تنهي الصراع العربي الإسرائيلي كما يقول؟ لا أظن أن أحدا في العالم العربي ولا في العالم كله يمكن أن يصدق ذلك. مع هذا فقد كان من يبشرون بالحل التاريخي (!!) القادم ينطلقون من أن الأمور تغيرت.
والفشل الأميركي في العراق قد قلب الأمور رأساً على عقب، وأن الحرب «المقدسة» التي أعلنها بوش بعد سبتمبر انقلبت وبالاً عليه وعلى أميركا، وان كل مشروعات أميركا في المنطقة قد سقطت.
وأن الهدف الآن هو تأمين الخروج المشرف من العراق، وتأمين المنطقة حتى لا تقع تحت سيطرة القوى المناوئة وعلى رأسها إيران، وأن هذا لا يمكن أن يتم إلا بمشاركة من النظم العربية المعتدلة، وبتوفير دعم من الشارع العربي بتحقيق «إنجاز» ما على طريق الحل المطلوب للقضية الفلسطينية.
وهكذا تم الإعلان عن الاكتشاف (!!) الأميركي المتأخر بان القضية الفلسطينية هي أم القضايا في المنطقة، وان لا سلام ولا استقرار في المنقطة إلا بالوصول إلى تسوية مقبولة لها.
وأن واشنطن ستركز جهودها لتحقيق هذه التسوية خلال الفترة القصيرة المتبقية من ولاية الرئيس الأميركي، لعلها تمنحه مكاناً في التاريخ ينقذه من أن يكون الأسوأ بين كل الرؤساء الأميركيين. بالإضافة إلى ما يحققه ذلك «الإنجاز» إذا تم من دعم لأصدقاء أميركا في المنطقة، ليكونوا بدورهم عوناً لأميركا في الخروج من مأزقها في العراق، ودعما لها في مواجهتها مع إيران.
لكن على الجانب الآخر كانت الوقائع تفرض نفسها، لتفقد هذه الصورة الوردية التي تروج لها الإدارة الأميركية وأنصارها في المنطقة عن التحولات التاريخية في السياسة الأميركية في المنطقة وعن «المعجزة» التي ستتحقق خلال الفترة المتبقية من ولاية الرئيس الأميركي لتضع حداً للصراع في المنطقة وتدشن مرحلة جديدة من السلام والتعاون بين أعداء الأمس.
لقد جاءت وزيرة الخارجية الأميركية رايس لتطلق العملية في المنطقة، وتعددت زياراتها ولقاءاتها لتحقيق الاختراق المطلوب والإعداد لاجتماع الخريف المرتقب. وفي نفس الوقت انتظمت اللقاءات الدورية بين رئيس الوزراء الإسرائيلي أولمرت والرئيس الفلسطيني أبومازن ورغم مأساوية ما حدث في غزة، فقد ابعد حماس عن المباحثات وأطلق يد الرئيس الفلسطيني (ولو مؤقتاً) في التحرك والتفاوض.
وترافقت مع هذه الاجتماعات وسبقتها (بل سبقت الدعوة الأميركية للاجتماع) مفاوضات سرية بين الطرفين، ولكن النتيجة حتى الآن هي إصرار إسرائيلي على إبقاء القضايا الأساسية مثل اللاجئين والحدود والقدس خارج النقاش، ورفض التعهد بتوقيتات محددة لإنهاء التفاوض على تفاصيل حل الدولتين والبرنامج الزمني لتحقيق ذلك. ليظل الأمر في إطار «إعلان النوايا» الذي لا قيمة فعلية له في ارض الواقع.
و إذا كان هذا متوافقاً من حكومة أولمرت وهي تعرف الظروف التي يمر بها الفلسطينيون والعرب، وتنسق خطواتها مع واشنطن، فإن الأمر الهام هو الموقف الأميركي الذي يكشف حقيقته لحلفائه العرب خطوة خطوة كما يبدو.. فالمبادرة العربية مقبولة وإيجابية ولكن من جانب واحد هو استعداد العرب للتطبيع مع إسرائيل، أما ربط ذلك بالحل الشامل والعادل وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود 67 بما فيها القدس العربية وضمان حقوق اللاجئين.. فهذا كله كلام يبقي للتاريخ، وللتفاوض!
والاجتماع القادم ليس هدفه الحل، ولكن هدفه «تحريك» القضية نحو هذا الحل. وهذا «التحريك» يستدعي أن يأتي المعتدلون ليطمئنوا إسرائيل، وأن يستبعد من يعطلون المسيرة. وهكذا فالإدارة الأميركية التي تريد حضور السعودية وأطراف عربية أخري لهذا «الاجتماع» ترفض في الوقت نفسه حضور سوريا التي تحتل إسرائيل جزءاً من أراضيها، رغم أن سوريا تعلن صباح مساء استعدادها للتفاوض والتزامها بعدم التصعيد!
هكذا فالمطلوب لقاء للعلاقات العامة تلتقط فيه الصور التذكارية، وتتحقق فيه خطوة نحو التطبيع المجاني مع إسرائيل، ويخرج عنه إعلان مبادئ أو نوايا لا يقدم أو يؤخر، ويتم استغلاله باعتباره انتصاراً للسياسة الأميركية في المنطقة. وبأنه خطوة لتهيئة المناخ لفترة قادمة تعيد فيها واشنطن ترتيب أوضاعها في العراق وتواجه التحدي الإيراني الذي تراه إذا لم تصل التسوية معه مهدداً لمصالحها.
وهكذا تجئ وزيرة الخارجية الأميركية إلى المنطقة هذا الأسبوع وقد سبقتها مواقف عربية معلنة تعبر عن السخط وتحذر من العواقب. في الجامعة العربية طالب وزراء الخارجية العرب بمشاركة سوريا ولبنان في الاجتماع ورفض الأمين العام عمرو موسى أي خطوة للتطبيع المجاني وطالب بحل حقيقي.
وحذرت مصر من عقد مؤتمر يكون مصيره الفشل، وأعلنت السعودية أنها قد لا تشارك في المؤتمر إذا لم يعالج القضايا الأساسية ومن بينها القدس والحدود واللاجئين ومع ذلك كله، فمازال الموقف العربي يحتاج إلى تعامل أكثر حسماً مع «الاجتماع» المقترح والذي كان حقيقته خطوة لقطع الطريق على مؤتمر دولي على غرار مؤتمر مدريد كانت تدعو له أوروبا وتعمل على عقده.
والآن والصورة تتضح للجميع ولا مجال لبيع الأوهام مرة أخرى، ينبغي أن يكون هناك موقف عربي واحد يرفض تقديم الهدايا المجانية ويضع المصلحة العربية فوق كل اعتبار، ويعلن أن المؤتمر إذا انعقد فسيحضره من الجانب العربي الدول التي لها ارض محتلة من إسرائيل (فلسطين وسوريا ولبنان) مع مصر والأردن المرتبطتين بمعاهدات معها.
أما باقي الدول العربية فلن تحضر إلا إذا كان هناك اتفاق رسمي مسبق وبضمان دولي بحل يقوم على أساس المبادرة العربية. هذا هو الموقف الذي يعيد الجميع (و خاصة أميركا وأوروبا) إلى المسار الصحيح للبحث عن حل حقيقي وليس للقاءات شراء الوقت وتسويق الحلول الوهمية.
إن إسرائيل في واقع الأمر تستعد للحرب لا للسلام، وأميركا لن تخرج من المنطقة ولا حتى من العراق الذي تخطط ليكون المقر لأكبر قواعدها العسكرية في المنطقة لسنوات طويلة قادمة. ولا ينبغي لنا أن نكون غطاءً لفشل أميركي في العراق، ولا أن نقدم على تطبيع مجاني مع إسرائيل بينما هي تستعد لعدوان جديد على العرب. ولا ينبغي أيضا أن ندفع الثمن لصدام محتمل بين أميركا وإيران، ولا لتسوية تتم على حسابنا. عن صحيفة البيان الاماراتية 16/9/2007