من أهم أهداف زيارة الرئيس مبارك لواشنطن فى الأسبوع القادم، هو عرض وجهة النظر العربية تجاه القضية الفلسطينية، قبل أن يطرح الرئيس أوباما خطته للسلام فى صورتها النهائية.. والمتوقع أن يعقب ذلك حملة أمريكية غير مسبوقة فى دول المنطقة للترويج لخطة السلام الأمريكية. اللقاء القادم بين الرئيسين هو الأهم والأخطر، وهو الثالث فى غضون شهرين.. اللقاء الأول كان فى القاهرة 4 يونيو الماضى، قبل أن يوجه أوباما رسالته إلى العالم الإسلامى من جامعة القاهرة.. والثانى فى إيطاليا 9 يوليو الماضى أثناء حضور الرئيسين قمة دول الثمانى. اللقاء الأخطر والأهم، لأنه يأتى فى مرحلة »المخاض الأمريكى«، الذى يسبق مولد خطة السلام الجديدة.. فى ظروف تشبه إلى حد كبير حماس البيت الأبيض فى فترات حكم نيكسون وكارتر وكلينتون. بمجرد دخوله البيت الأبيض استطاع الرئيس أوباما أن يحسن صورة بلاده أمام الشعوب العربية والإسلامية، ولم يكن فى وسع واشنطن أن تصل لذلك بعد عشرات السنين، حتى لو أنفقت مليارات الدولارات على خطط الدعاية والتسويق التى تستهدف تجميل صورتها أمام العرب والمسلمين. أوباما فعل ذلك فى ساعات قليلة، واستطاع أن يبنى جسوراً من الثقة، التى تساعد بلاده على القيام بدورها كوسيط مقبول فى إدارة مفاوضات السلام بين إسرائيل والفلسطينيين.. واختصر كثيراً من المسافات، وأذاب بعض مشاعر المرارة التى كانت تملأ النفوس، وفتح الطريق أمام دور أمريكى جديد فى المنطقة، بعد رسالته الرائعة فى جامعة القاهرة. مبارك بدوره يحاول توظيف كل ذلك لصالح القضية الفلسطينية وهو يعلم جيداً بخبرته وحنكته أنه يجب طرق الحديد ساخناً، وأن يستثمر حماس وحيوية الرئيس أوباما فى التوصل إلى تسوية دائمة وعادلة ويبذل جهوداً مضنية حتى لا تضيع الفرصة، لأنها إذا ضاعت ربما لا تجئ قبل سنوات طويلة. رحم الله الرئيس السادات الذى كان يقول أن 99٪ من أوراق اللعبة فى يد أمريكا، وكان الحنجوريون العرب يهاجمونه ويسخرون منه، ولكن أثبتت السنوات الطويلة أن مفتاح السلام الرئيسى فى يد الإدارة الأمريكية ولن تُفتح أبواب السلام إلا إذا أرادت واشنطن ذلك. غير توظيف حماس أوباما لصالح القضية الفلسطينية، يريد مبارك قطع الطريق على المناورات الإسرائيلية الهائلة التى تستهدف أمرين: الأول هو إفساد التقارب الأمريكى مع العالم العربى والإسلامى، والثانى هو الهروب من التزامات السلام، وإلقاء أسباب الفشل على عاتق الجانب الفلسطينى. كان الرئيس الراحل جمال عبدالناصر يقول دائماً فى خطبه »الوقت فى صالح العرب وليس فى صالح إسرائيل«، ولكن أثبتت الأحداث عكس ذلك، فالوقت بالنسبة للعرب والفلسطينيين يضيع فى مزيد من الفرقة والتشرذم والخلافات، وبالنسبة لإسرائيل يتم استثماره فى التهام الأراضى الفلسطينية وتثبيت أوضاع المستوطنات، والهروب من استحقاقات السلام. ولكن الوقت الآن أصبح ملائماً لصالح القضية الفلسطينية لعدة أسباب أهمها هدوء الخلافات العربية وتهيئة الأجواء لبلورة موقف عربى يدعم المفاوض الفلسطينى ويثَّبت مواقفه، وأيضا لانشغال عديد من القوى الإقليمية فى ملفاتها الداخلية وتخفيف الضغوط التى تمارسها على الفلسطينيين خصوصاً إيران، التى لعبت دوراً كبيراً فى زيادة حدة الخلافات بين الفصائل الفلسطينية وعدم توصلها إلى اتفاق. مقال الرئيس مبارك الذى نشرته صحيفة وول ستريت جورنال فى يونيو الماضى نبه بشدة إلى عامل الوقت، وأكد الرئيس ضرورة التحرك العاجل نظراً للحالة الحرجة التى تمر بها عملية السلام بعد سنوات من الجمود، وأن الطريق إلى التسوية النهائية يتطلب القيادة وتضافر الجهود من قبل كل الأطراف. الوقت سيف على رقبة القضية الفلسطينية أكثر مما هو على رقبة إسرائيل، خصوصاً وأن الملفات العالقة مازالت كثيرة ومتشعبة ومعقدة، فى ظل العناد الإسرائيلى الذى يضع العقبات والعراقيل كلما لاحت فى الأفق بوادر الحل.
المستوطنات من أكثر العراقيل التى تزرعها إسرائيل فى طريق استئناف المفاوضات، وسوف يستمع الرئيس أوباما إلى موقف مصرى متشدد يدعو إلى ضرورة أن يتوقف التوسع فى بناء المستوطنات الذى يؤدى إلى تهديد خيار الدولتين، وتآكل الأراضى الفلسطينية لحساب المطامع الإسرائيلية. إسرائيل ترى أن أى اتفاق سلام يجب أن يحافظ على بقاء الكتلة الاستيطانية، ولذلك تحاول أن تسبق الزمن فى الإسراع بالبناء وطرد وتهجير السكان لتثبيت أوضاع غير قانونية على أرض الواقع، ثم تستخدمها كأوراق ضغط ومساومة فى مراحل التفاوض المختلفة. تقوم إسرائيل بمناورات كثيرة للإفلات من المطالب الأمريكية الأوروبية بوقف الاستيطان وتجميد المستوطنات، بتقديم أفكار شائكة لايقبلها الفلسطينيون والعرب، مثل الدعوة إلى وقف بناء المستوطنات - إلا التى يجرى بناؤها الآن - لمدة ثلاثة شهور على أن تتبع ذلك خطوات عربية للتطبيع. الربط بين بناء المستوطنات والتطبيع لايحقق مطالب العرب، الذين يطلبون سلاماً كاملاً مقابل التطبيع الكامل، وأن تتضمن خطة السلام الأمريكية التى يزمع الرئيس أوباما الإعلان عنها تعهداً أمريكياً - إسرائيلياً صريحاً بتجميد كامل للاستيطان، وتحديد طبيعة الخطوات التطبيعية ومراحل تنفيذها، تزامناً مع البدء فى تنفيذ بنود خطة السلام المقترحة. الجانب المهم فى قضية التطبيع هو أنه لا يتم بموافقة الحكومات فقط، ولكن بإرادة الشعوب، حيث لم يتحمس المصريون حتى الآن للمضى بحماس فى إجراءات التطبيع، لشعورهم بأن السلام مازال ناقصاً ولم يتحقق على بقية المسارات، ومازال الحاجز النفسى المترتب على الممارسات العدوانية الإسرائيلية يلعب دوراً حاسماً فى جعل التطبيع بطيئاً وبارداً. لن تستطيع الدول العربية أن تتخذ قراراً جماعياً بالتطبيع مع إسرائيل، إلا إذا تأكدت الشعوب العربية أن نهاية الطريق سيكون التوصل إلى تسوية عادلة وفق حل الدولتين، وإعلان القدسالشرقية عاصمة لفلسطين، وإيجاد حلول للقضايا الصعبة وأهمها اللاجئون وحدود الدولة الفلسطينية المستقلة، المتصلة الأرض والتى تتمتع بالسيادة. استئناف مباحثات السلام ليس كافياً لطمأنة الشعوب العربية للمضى فى إجراءات التطبيع، فقد شهدت المفاوضات انتكاسات كبيرة على مدى عقدين من التفاوض منذ بداية عملية أوسلو للسلام.. وكما أكد الرئيس فى مقال وول ستريت جورنال، فإنه ينبغى الإسراع بعملية جادة للتفاوض حول التوصل إلى اتفاق للوضع النهائى بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، ويجب أن تعطى الأولوية لدولة فلسطينية ذات سيادة ومتصلة الأراضى على أساس خطوط 7691.
العلاقات الثنائية بين الدولتين على حد تعبير مسئول أمريكى »لا يمكن أن يستغنى عنها الطرفان«، وبمجرد رحيل بوش عن البيت الأبيض انزاحت عن سماء العلاقات بين البلدين عديد من السحب الداكنة. حسمت مصر مبكراً قضية القواعد العسكرية وهو ما أعاد تأكيده الرئيس مبارك أثناء زيارته الأخيرة لدمياط.. وقد تعرضت مصر لضغوط كبيرة فى فترة حكم بوش للموافقة على إقامة قواعد أمريكية لاستكمال منظومة الهيمنة على المنطقة، ولكن مصر رفضت ذلك بشدة ولم تخضع لأية ضغوط أو مساومات. تصدت مصر للمقترحات الأمريكية بإحلال قوات عربية محل قوات التحالف فى العراق، ورفضت أن يراق الدم العربى بأيدٍ عربية، وتعرضت - أيضا - بسبب ذلك لضغوط هائلة، ولكنها لم تزعن ولم تضعف ولم تستجب. كانت إدارة بوش تلجأ للضغط على مصر فى القضايا الداخلية للحصول على تسهيلات عسكرية، مثل قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان ومشاكل الأقليات وغيرها، ولم تكن واشنطن تتدخل من أجلهم، ولكن من أجل مصالحها الخاصة.. ونجحت مصر فى توصيل الرسالة واضحة لواشنطن »لانخضع للضغوط«. تلك هى الأرضية التى تُبنى عليها العلاقات بين القاهرةوواشنطن منذ أن تولى الرئيس أوباما السلطة، وكل الشواهد تؤكد أن الإدارة الأمريكية تبدى تفهماً كاملاً لخطة الإصلاح السياسى والاقتصادى التى تقوم بتنفيذها، والتى سوف تشهد مزيداً من الخطوات التى تحقق طموح الشعب المصرى.
يذهب الرئيس إلى واشنطن وفى صوته نبرة حزن بسبب استمرار الخلاف بين الفصائل الفلسطينية، وعدم التوصل إلى اتفاق حتى الآن، بل زادت حدة الخلافات بعد انعقاد مؤتمر فتح الأخير فى بيت لحم.. واتهام الرئيس محمود عباس حماس صراحة بأنهم »يريدون أن يدخلوا الجنة بقتلنا، ووالله لن يطأوها«، ووصف الحوار مع حماس بأنه »دوامة لاتنتهى«. حماس بدورها ردت على عباس ووصفت خطابه بأنه ملئ بالتهريج والتلفيق ولا يؤسس أى مصالحة، وانشغل الفلسطينيون فى معركة فتح وحماس، بدلا من توحيد الصف ورأب الصدع لمواجهة إسرائيل. ما هو مصير أى خطة سلام فى ظل انقسام السلطة وصراع الدولتين فى غزة ورام الله، وهو الخلاف الذى تستثمره إسرائيل إلى أقصى درجة ممكنة.. وتضعه كمسمار فى نعش أية خطط للسلام؟ ما يحدث بين فتح وحماس لن يجعل مصر تفقد الأمل أبداً، بل يزداد إصرارها على استمرار الوساطة إلى ما لا نهاية ودون سقف زمنى.. وهذه المعانى التى أكدها مبارك أمام الرئيس الإسرائيلى شيمون بيريز خلال لقائهما فى القاهرة 7 يوليو الماضى. الرئيس كان قاطعاً عندما أكد أن القضية الفلسطينية ستبقى على رأس أولويات مصر والعالم العربى، وشدد على ضرورة تجاوب إسرائيل مع استحقاقات السلام بأفق واضح، بوقف الاستيطان واستئناف مفاوضات الحل النهائى، من حيث توقفت وصولا إلى السلام الذى يقيم الدولة الفلسطينية المستكملة لمقومات الحياة والبقاء. الله معاك.. وأنت تحمل هموم أمتك وتدافع عنها وتقاتل من أجلها.. فمصر هى الدولة المحورية الكبرى وهذا مقدارها وقدرها.. وزعيمها يتحمل المسئولية التاريخية عن إيمان واقتناع.. وهذا أيضا قدره ومقداره.