يكتب من واشنطن جئت إلى هنا وعلى رأس أولوياتى قضية السلام، لدينا رؤية نريد أن نطرحها هكذا لخص الرئيس مبارك الهدف من زيارته لأمريكا، والمباحثات المكوكية السريعة التى ازدحم بها جدول الزيارة خلال يومى الاثنين والثلاثاء الماضيين، وظل الرئيس يعرض رؤيته بوضوح وصراحة، وكأنه يقرأ فى كتاب مفتوح، فهو يحفظ هذا الملف على مدى 06 عاماً منذ أن كان ضابطاً بالقوات المسلحة، ثم نائبا، ثم رئيساً. كان الرئيس شديد التألق فى المؤتمر الصحفى الذى حضره فى المكتب البيضاوى مع الرئيس أوباما.. وبدت على ملامحه علامات الرضا والارتياح بعد أن وضع أمام الإدارة الأمريكية خلاصة تجربته فى المشكلة الأكثر تعقيدا على مستوى العالم. الحل يبدأ بتحديد حدود الدولة الفلسطينية رؤية الرئيس فى هذه القضية هى البدء بهذا الملف الساخن، وأن يجلس الفلسطينيون والإسرائيليون ويفردوا الخرائط لوضع حدود الدولة الفلسطينية، لأن هذا من شأنه أن يفتح الطريق فى باقى موضوعات الحل النهائى.. الرئيس شرح لأوباما خلال زيارته الأخيرة للقاهرة ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية وهو 02 ٪، وهى مساحة ليست كبيرة على الشعب الفلسطينى، وإذا أرادت إسرائيل أن تقتطع جزءً من هذه الأراضى، فعليها أن تعوض الدولة الفلسطينية بجزء مساوٍ من أرض إسرائيل. أوباما أصبح يتبنى هذه الرؤية، وصار البدء بتحديد الحدود موقفاً أمريكياً، بعد أن أحضر الرئيس مبارك خرائط حصل عليها من الرئيس محمود عباس ومن الوزير عمر سليمان، وفردها أمام أوباما فى قصر القبة يوم 4 يونيو الماضى، وشرح له على الطبيعة الوضع فى غزة والضفة الغربية، وحدود فلسطين سنة 84 وسنة 76 والآن، والموقف الكامل للمستوطنات التى تشيدها إسرائيل. الرئيس أثبت بالخرائط أن إسرائيل تقوم ببناء المستوطنات لهدفين الأول هو المياه، فأينما وجدت المياه وجدت المستوطنات، والثانى هو الأمن، مؤكدا أن مصر بخبرتها الطويلة وتعاملها مع إدارات أمريكية كثيرة تقول إن الحل يبدأ بتحديد الحدود وأن تبدأ المفاوضات من حيث انتهت. لاتفريط فى القدسالشرقية هذه القضية لا تقبل المساومة، وعرضت مصر رؤيتها بأن تكون القدسالشرقيةلفلسطينوالغربية لإسرائيل، مع إتاحة حرية دخول الجميع للأماكن المقدسة، وهذا هو الحل المنصوص عليه فى قرار التقسيم الصادر سنة 8491. المفاوضات بشأن القدس توقفت عام 0002 وقتها اتصل الرئيس بيل كلينتون بالرئيس مبارك، من كامب ديفيد وطلب منه أن يقنع ياسر عرفات بقبول مبادرته التى تتضمن تفريطاً فى بعض الأماكن فى القدسالشرقية، فرد مبارك بأنه لا هو ولا أى رئيس عربى يستطيع أن يفعل ذلك، الشعوب الإسلامية لن ترحمه. عرضت إسرائيل ضمن خطة تبادل الأراضى مع السلطة الفلسطينية مطالب مبالغاً فيها، واستخدمت إسرائيل "الممر الآمن" الذى يربط بين غزة والضفة، ومطالبة ب "القيمة الموازية" وليس "المسافة" لتحصل على أراضٍ تساوى أضعاف ما تتنازل عنه فى الممر، ولكن مصر نصحت الفلسطينيين بعدم التورط فى موضوع القيمة، وأن يكون تبادل الأراضى مساحة بمساحة متساوية. التطبيع الكامل بعد السلام الكامل أوباما متحمس لطلب إسرائيل بالحصول على "إيماءات عربية" أو خطوات لبدء التطبيع لإثبات حسن النوايا وتشجعها على المضى قدماً فى مباحثات السلام.. وتتساءل الإدارة الأمريكية: لماذا لا يتم فتح الاتصالات التليفونية بين إسرائيل والدول العربية، والسماح للطيران الإسرائيلى بالعبور فى الأجواء العربية خصوصاً السعودية وغيرها من الإجراءات التى تساعد على بناء الثقة. الرئيس طلب أن تقوم إسرائيل وليس العرب "بإيماءات" لتشجيع الدول العربية، لأن تجاربنا مع التطبيع فاشلة ومريرة، ولابد من مراعاة مشاعر الشعوب العربية، التى تنتظر من إسرائيل خطوات قوية وملموسة، لأن التطبيع المجانى لن تكون له قيمة وسيكون مصيره الفشل، وقد كانت لإسرائيل مكاتب تمثيل تجارى فى ست دول عربية، قامت بإغلاقها بعد العدوان على غزة. إيماءات التطبيع مناورة إسرائيلية للحصول على ثمن السلام دون أن تقدم المقابل، والعرب لهم تجربة سيئة مع التطبيع فى أعقاب مؤتمر مدريد فى التسعينيات، وتم إطلاق سلسلة من قرارات التعاون الإقليمى، انبثقت عنها لجان للمياه والحدود والتسليح وغيرها بهدف جلوس العرب والإسرائيليين للتفاوض وبدء إجراءات التطبيع، ولكن كل ذلك توقف بعد اغتيال رابين. وقف الاستيطان فوراً بدأت الضغوط المصرية تؤتى ثمارها، بعد أن اقتنعت إدارة أوباما بضرورة وقف الاستيطان، ولأول مرة فى تاريخ الرؤساء الأمريكيين يحدث هذا التطور الكبير، وكانت كل الإدارات السابقة تعتبر المستوطنات مجرد "عقبة فى طريق السلام"، ولم يجرؤ أحد على المطالبة بوقفها.. لدرجة أن مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة استخدمت حق الفيتو فى مجلس الأمن مرتين سنة 0891 لقتل مشروع قرار عربى حول مستعمرتى أبوغنيم ورأس العمود. الرئيس مبارك قدم لأوباما صوراً فوتوغرافية حول أوضاع المستوطنات التى تلتهم الأراضى الفلسطينية، مؤكداً أن تجميدها هو الخطوة الضرورية لبدء مفاوضات السلام، وينبغى أن تفعل إسرائيل ذلك طواعية وبدون مقابل، لأنها هى قوة الاحتلال، وصاحبة الممارسات العدوانية، وليس مطلوباً من العرب أن يقدموا لها تنازلات فى مقابل ذلك. الحديث عن حدود الدولة الفلسطينية "المؤقتة" وضع خطير ويتبناه قادة إسرائيل، لذلك تركزت رؤية الرئيس على حدود الدولة "الدائمة".. وتلقى الرئيس قبل زيارته لواشنطن اتصالات من نتانياهو وبيريز وباراك، أكدوا فيها أنهم حكومة سلام، رغم التصريحات العدائية التى يطلقها وزير الخارجية ليبرمان، وأكدوا - أيضاً - أنهم يدرسون موضوع المستوطنات. ضرب إيران كارثة هذه العبارة قالها الرئيس مبارك لبوش الأب، والابن وأيضا للرئيس أوباما.. وتتزايد المخاوف من أن تبدأ إسرائيل حرباً مباغتة ضد إيران، تتورط فيها الولاياتالمتحدة.. ولن تقتصر الكارثة على دول الخليج فقط، بل الشرق الأوسط والعالم، وسوف يرتفع سعر برميل البترول إلى 052 دولاراً، بجانب ارتفاع أسعار الشحن التى تؤثر بدورها فى أسعار السلع الغذائية. إسرائيل تلعب على "فزاعة إيران" داخل الولاياتالمتحدة، رغم أن أولويات أوباما الآن هى أفغانستان والعراق، حيث توجد له قوات ثم إيران.. وإسرائيل تجرى مناورات فى جبل طارق مع تركيا ويدلى قادتها بتصريحات نارية حول استعادة حزب الله لصواريخه وقدراته العسكرية، كل ذلك لتسخين الأجواء وتهيئة مسرح العمليات للحرب الكارثية. رؤية الرئيس التى نقلها لأوباما تؤكد أن الحرب ضد إيران سوف تضع ملف السلام فى الثلاجة لسنوات طويلة قادمة.. رغم أنه يتبع سياسة "اليد الممدودة" مع طهران، ولكن سيكون الكابوس المزعج لأوباما إذا أيقظوه فى الثانية فجراً وأبلغوه أن إسرائيل تقوم بضرب إيران. لسنا فى خندق واحد مصر ليست فى خندق واحد مع إسرائيل فيما يتعلق بالملف الإيرانى، ولكنها تفعل ذلك من منظور تهديد إيران للأمن القومى العربى، خصوصاً دول الخليج، ولإيمانها بأن الشرق الأوسط ليس فى حاجة إلى سباق جديد لامتلاك الأسلحة النووية، ولكنه يحتاج نزع هذه الأسلحة، ومصر تقدم تقريراً سنوياً لهيئة الطاقة الذرية فى فيينا حول تطور قدرات إسرائيل النووية. أوباما له موقف متقدم، وهو أول رئيس من بين رؤساء الدول الخمسة التى تملك الأسلحة النووية »فرنسا وإنجلترا والصين وروسيا« الذى يتحدث عن منع الانتشار ونزع السلاح النووى، بينما الدول الأخرى تتجاهل هذه القضية تماما. مصر لن تكون طرفاً فى ترتيبات أمنية القاهرة لم تتلق أى طلبات أو معلومات عن المظلة الدفاعية الموجودة فى أوروبا، ويجرى الحديث عن نشرها فى الشرق الأوسط، وحرص الرئيس أن يؤكد أن ما تلقاه هو معلومات إعلامية وصحفية، وفى حالة صحة هذا الكلام فلن تكون مصر طرفاً فيه، لأن وجودها يعنى وجود خبراء لإقامتها وتشغيلها والتدريب عليها، والرئيس أكد أنه لن يسمح بأى تواجد أجنبى تحت أى ذريعة. إيران مازالت ترغب فى أن يسفر الحوار عن تفاهم مع الولاياتالمتحدة حقناً للدماء، إما بالتفاوض عن برنامجها النووى، أو أن تسمح للأمم المتحدة بالتفتيش فى مقابل تنازلات بأن يكون لها دور إقليمى.. ومصر لن تقبل أبدًا أن تعود لممارسة دور شرطى الخليج مثلما كانت أيام الشاه.. فهذا - أيضا - يجر المنطقة إلى كارثة. إيران لديها صواريخ تصل إلى بعض دول الاتحاد الأوروبى، وهذه أمور خطيرة بالنسبة لأمريكا والغرب.. أما الأولوية لمصر والدول العربية فليست كذلك، الأولوية هى ألا تتحول إيران إلى "فتوة" فى المنطقة، ولعلنا نتذكر عندما خرج خامنئى بالكلاشنكوف أثناء العدوان الإسرائيلى على لبنان قائلا: "سوف ننتصر على إسرائيل فى لبنان" للإيحاء بأنه حامى حمى الدول العربية. أين العرب؟ لا أحد يتحرك ولا يساعد ولا ينقل أفكاراً فى هذه الفترة الحرجة التى هى مرحلة مخاض جديدة بالنسبة للسياسة الأمريكية فى المنطقة، الكل مشغول بشأنه الداخلى أو يبحث عن دور بالكلام والخطب والشتائم.. وكم كان الرئيس حزيناً ومهموماً وهو يتحدث أمام القمة الاقتصادية فى الكويت منادياً بموقف عربى موحد يدفع القضية الفلسطينية تجاه السلام ويرفع المعاناة عن شعبها. مصر هى التى فى يدها النار، ولا تستبعد أبدا أن تتجاوب بعض الدول العربية مع ما تطلبه إسرائيل والولاياتالمتحدة من تقديم "إيماءات" لبناء الثقة مع إسرائيل، وأن تبادر بتقديم ذلك طواعية، وبدون مقابل، للالتفاف حول حدة الموقف المصرى المتشدد والحاسم تجاه التطبيع، رغم أن مصر ليست لها مشكلة مع إسرائيل ولا الولاياتالمتحدة ولها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، ولكنها تخشى الهرولة العربية بلا ثمن، التى تضرب القضية الفلسطينية فى مقتل. مصر تشعر بالحزن والأسى بسبب الصراع الفلسطينى - الفلسطينى، لأن أمريكا والغرب يطالبون الآن بشريك للسلام مع إسرائيل حتى تبدأ المفاوضات، ويسألون عن الطرف الثانى الذى يجلسون معه، وأكد الرئيس أن جهود مصر المتواصلة، سوف تنجح فى إيجاد صيغة ما حتى إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية فى فلسطين فى يناير القادم مصر تشدد على ضرورة التوصل إلى اتفاق مشرف يستطيع الشعب الفلسطينى أن يحتضنه، ويعيد إحياء الأمل من جديد فى نفوس الفلسطينيين. ثلاثة أيام قضاها الرئيس فى واشنطن، منها يومان لم يلتقط أنفاسه فيهما دقيقة واحدة.. ولم ير شيئاً إلا المباحثات والمفاوضين . كرم جبر E-Mail : [email protected]