جمال سلطان هذا يوم من أيام الفخر والعزة لمصر وأمتها العربية والإسلامية ، يوم العاشر من رمضان ، ففي مثل هذا اليوم الأغر عبرت مصر بحر الهزيمة والانكسار ، وتخطت زمان القهر والهوان ، لم يكن إنجاز الجيش المصري في حرب رمضان الجسورة أنه عبر خط بارليف الذي وصف عسكريا بأنه أصعب الحواجز الصناعية والطبيعية وعورة في تاريخ العسكرية ، وأنه من المحال اقتحامه .
فاقتحمه رجالنا الأبطال غير مبالين بما قيل من أن ثلاثة أرباع قوات الاقتحام ستكون في عداد القتلى ، وحققوا المعجزة العسكرية التي تدرس حتى الآن كحالة عسكرية نادرة ، لم يكن هذا الإنجاز العسكري الرائع هو جوهر فرحة العبور العظيم ، ولكنه عبور مصر الدولة والشعب وإرث التاريخ والكرامة من حال إلى حال .
لقد كان انكسار الجيش المصري أمام الصهاينة في حرب يونيو 67 بطعم العلقم والمرارة في حلوق الناس ، حقيقة لا مجازا ، وتحولت مصر والبلاد العربية معها إلى معرض للنكت والتندر والسخرية والاستهزاء ، ونشطت في مصر ذاتها أصوات صاخبة أخطأت فهم المعارضة ، حيث ملأت الأفق بالأناشيد والأشعار والأهازيج والأغنيات والكتابات التي تعزز روح الهزيمة كقدر مقدور وتبث روح الإحباط ، ولو بغير قصد ، في نفوس الشعب وفي نفسية المقاتل المصري ذاته ، وكان الرئيس السادات الذي ورث تركة الهزيمة الثقيلة وورث معها نفوذا خطيرا لمراكز القوى التي هيمنت على صناعة القرار في مصر في نهايات عصر عبد الناصر.
لم يكن السادات في موقف الرئيس القوي المتحكم في بلد بحجم مصر ، ومصر ذاتها كانت تعاني الفاقة والفقر وضعف القدرة على تحديث قدرات جيشها إلا بشق الأنفس والاستدانة المتراكمة ، كان كل ما حولنا يعزز الإحباط ويرسخ روح الهزيمة ، لكن السادات والقادة الجدد للعسكرية المصرية راهنوا على المقاتل وليس على السلاح ، راهنوا على استنفار ميراث الشهادة وعبق الانتصار الإسلامي في رمضان عبر التاريخ ، راهنوا لأول مرة في الجيش المصري على صيحة : الله أكبر ، التي أصبحت شعار معركة النصر المبين ، ذلك الهتاف الذي ما إن يخرج من حنجرة المجاهد المصري حتى يتحول إلى طاقة اقتحام جسورة .
والذي عايش أجواء الهزيمة وما بعدها ، أو الذي يقرأ عنها وعن أجوائها الكئيبة في مصر كلها ، بعسكرييها وسياسييها ومثقفيها وفنانيها وكل شيء فيها ، سيعرف ماذا يعني انتصار رمضان ، ماذا يعني العبور ، حتى وإن تراكمت من بعده سياسات وأحوال خاطئة في بلادنا لا نرضى عنها ولا تعزز المكاسب السياسية لهذا النصر العظيم ، حتى وإن طفح على سطح الحياة في بلادنا حيتان الفساد الذين يحصدون الذهب والفضة والمليارات من الأرض التي روتها دماء الشهداء بينما بعض الأبطال الأحياء يقفون في طوابير الخبز والهوان ليتغلبوا على صعوبات الحياة ، فهذا كله لا يقلل من قيمة النصر في ذاته ، وفي رمزيته .
مصر لم ترفع رأسها إلا بعد العبور ، مشاهد البطولة التي تناقلها إعلام العالم كله لرجال مصر الأبطال وهم يقتحمون خط بارليف أو يعبرون القناة أو يخوضون أروع معارك الدبابات أو يطهرون القنطرة شرق من بيت لبيت ومن شارع لشارع ، مشاهد طوابير الأسرى من جنود وضباط جيش الصهاينة وهم يشبكون أيديهم فوق رؤوسهم في ذلة وهوان تحت حراب بندقية المجاهد المصري مشهد لم يحدث أبدا منذ نشأت إسرائيل وحتى اليوم ، إلا في حرب رمضان .
مدينون نحن حتى اليوم لهؤلاء الرجال الذين عبروا بنا من الهزيمة إلى النصر ، مدينون نحن لهؤلاء الأبطال الذين أعادوا الاعتبار والكرامة والهيبة لمصر وتاريخها ومكانتها وإنسانها ، مدينون للشهداء ، مدينون لكل قطرة دم طاهرة أريقت على رمال سيناء أو شاطئ القناة لتتطهر بها مصر من رجس الصهاينة ووحل الخيانة والإحباط ، واسلمي للخير والمجد أبدا يا بلادي .