مستقبل الهيمنة الأمريكية بشير عبد الفتاح لم يكن إعلان الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب إبان عملية تحرير الكويت في العام1990, عن انبثاق نظام عالمي جديد تقوده الولاياتالمتحدة منفردة, كفيلا بأن يضع نهاية للجدل الاستراتيجي العالمي الحامي الوطيس, الذي أعقب انهيار ما كان يسمي بالاتحاد السوفياتي, بقصد توصيف ذلك النظام العالمي الجديد, هل هو نظام انتقالي تتزعمه الولاياتالمتحدة' مؤقتا' لحين صعود أقطاب كونية أخري تشاطرها تلك الزعامة؟.. أم أنه نظام أحادي القطبية تهيمن عليه الولاياتالمتحدة منفردة؟.. أم هو تشاركي تقوده الولاياتالمتحدة بالتنسيق مع قوي عالمية كبري أخري تليها في سلم القوي الدولي؟!. وإذا كان تنصيب الولاياتالمتحدة نفسها مهيمنة علي عالم اعتبرته أحادي القطبية قد سوغ للكثيرين الزعم بأن عالم اليوم قد أضحي أسيرا لهيمنة أمريكية محققة, فإنه لم يحل دون اندلاع جدل كوني آخر أشد وطأة يتوخي سبر أغوار تلك الهيمنة؟ بدءا بالتأكد من مصداقيتها مرورا بتحديد معالمها وتداعياتها علي النظام الدولي, وانتهاء بالوقوف علي عمرها الافتراضي. فمن جهة, جنح نفر من الخبراء الإستراتيجيين للاعتقاد في أن تلك الهيمنة بسبيلها إلي الأفول, استنادا إلي معطيات شتي, أبرزها تراجع القدرات الأمريكية التي أهلت الولاياتالمتحدة لفرض هيمنتها في الوقت الذي تتعاظم امكانيات قوي عالمية منافسة, علاوة علي أسلوب تعاطي الولاياتالمتحدة الخاطيء وغير الرشيد مع تلك الهيمنة علي نحو ما تجلي في الصلف والافتئات علي الشرعية الدولية ومن جهة أخري, عمد نفر آخر من أولئك الخبراء إلي الزعم ببقاء هذه الهيمنة وإطالة أمدها, معتمدة في ذلك علي ما بحوزتها من موارد مادية وإمكانات بشرية متجددة لم تتح لسواها في عصر يراه أنصار هذا الرأي أمريكيا حتي نهاية القرن, مادامت القوي الدولية الأخري عازفة عن تحدي القطب الأمريكي بشكل جدي ومنازعته الهيمنة المنفردة علي العالم, ومابرحت كافة الطاقات داخل المجتمع الأمريكي تتلاقي وتعمل بدأب, بالتوازي وبشكل تكاملي, من أجل تعزيز الريادة وتأبيدها الهيمنة, وفي هذا الإطار, جاء امتثال الأمريكيين الفريد لمبدأ النقد الذاتي ومنهج المراجعة الموضوعية, اللذين تمخضا عن طروحات قيمة قدمها خبراء استراتيجيون متميزون من أمثال جوزيف ناي وفرانسيس فوكوياما وزيجنيو برجينسكي, يحض صناع القرار في واشنطن علي اعتماد سياسة' القوة الذكية' المتمثلة في الجمع بين طريقين متوازيين ومتزامنين للإبقاء علي الهيمنة الأمريكية. أولهما, الهيمنة القائمة علي تعظيم التفوق العسكري. وثانيهما, الهيمنة الرضائية التي تستند إلي مصادر القوة الناعمة أو الرخوة, وتتبني خطابا دعائيا يتفنن في إيهام العالم بخيرية مقاصد الهيمنة الأمريكية وضرورتها لحفظ الاستقرار العالمي, كما تحاول في الوقت ذاته, تحري العقلانية وتقاسم الأعباء والمغانم مع القوي العالمية الاخري, والنأي بنفسها عن الغطرسة والإسراف في استخدام القوة, والإمعان في خلخلة قواعد الشرعية الدولية. وبرغم رصانته, الأقرب إلي المثالية, لم يسلم الطرح المتفائل لمستقبل الهيمنة الأمريكية من المنغصات, ذلك أنه إذا ما تولدت لدي الإدارة الأمريكية المقبلة قناعة بضرورة تحري كافة السبل الكفيلة بترشيد الهيمنة القسرية الأمريكية علي العالم وتحويلها إلي هيمنة رضائية لا تستحث دول العالم لرفضها أو تستفزهم من أجل التمرد عليها, فإن عملية علي هذا القدر من التعقيد لا يمكن أن تتم بين عشية وضحاها, فقد تستغرق حينا من الدهر, حتي تؤتي أكلها, خصوصا بعد تآكل مصداقية معظم مرتكزات القوة الذكية الأمريكية, التي همشت طيلة السنوات الثماني التي قضاها جورج بوش الابن في الرئاسة. غير أن الاستعداد الجيني والنزوع الفطري صوب الهيمنة, إلي جانب الولع المرضي بالقوة وتكريس التفوق العسكري, علي نحو ما تجلي في سياسات المحافظين الجدد خلال الآونة الأخيرة, من شأنها أن تجعل الأمريكيين يضيقون صدرا بتحمل الأعباء النفسية والزمنية لعملية التحول نحو الهيمنة الرضائية, ومن ثم تتبدد قدرة صانع القرار الأمريكي علي مجاهدة ميوله الارتدادية لمعاودة اتباع ذات الوسائل والآليات القمعية التي تبنتها إدارة الرئيس بوش الابن وبطانته من المحافظين الجدد, ظنا منهم أنها وحدها الكفيلة بضمان الإبقاء علي الهيمنة الأمريكية القسرية علي العالم إلي حين تحولها إلي هيمنة رضائية, لاسيما أن ثقة غالبية صناع القرار الأمريكي في جدوي الركائز التي تعتمد عليها الهيمنة الرضائية لم تصل بعد إلي المستوي الذي بوسعه إقناعهم بالتخلي, ولو عن قسط ضئيل من آليات الهيمنة القسرية علي العالم. ومن شأن ذلك التردد والتخبط الأمريكيين أن يبقيا علي أجواء القلق التي تلف مستقبل الهيمنة الأمريكية ومكانة الولاياتالمتحدة علي سلم القوي الدولي, خصوصا أن بمقدورهما أن يرتدا بالهيمنة والمكانة الأمريكيتين إلي المربع رقم واحد مرة أخري, حيث تحري كافة السبل الممكنة للإبقاء عليهما حتي لو اضطرت واشنطن لاستعداء القوي العالمية الصاعدة والحيلولة دون بروز أو نمو أية قوي أخري مماثلة, وهو التوجه الذي يفاقم من الممانعة الدولية للهيمنة الأمريكية علي النحو الذي يستنزف قدرات الولاياتالمتحدة ويمهد السبيل لسحب البساط تدريجيا من تحت أقدامها. عن صحيفة الاهرام المصرية 17/7/2008