من بين تساؤلات عديدة تمخض عنها الجدل الحامي الوطيس، الذي تشهده الأوساط السياسية والدوائر الإعلامية الأمريكية هذه الأيام حول تقويم أداء الرئيس باراك أوباما وإنجازاته علي الصعيدين الداخلي والخارجي قياسا إلي وعوده التي سبق وأن قطعها علي نفسه إبان حملته الإنتخابية قبل ما يربو علي عام مضي وما يستتبعه ذلك كله من تأثيرعلي شعبيته، يطل برأسه التساؤل بشأن مصير الهيمنة الأمريكية علي عالم ما بعد الحرب الباردة في ظل إدارة ذلك الرئيس الديمقراطي، علي الأقل خلال السنوات المتبقية من ولايته الأولي. فلقد فتح فوز الفتي الأسود ذي الجذور الأفريقية المسلمة باراك حسين أوباما برئاسة الولاياتالمتحدة وصراعه مع نفسه أولا ثم خصومه ومنافسيه ثانيا من أجل تحقيق إنجازات ملفتة في أشد قضايا وملفات السياستين الداخلية والخارجية لبلاده صعوبة، باب الجدل علي مصراعيه بين المفكرين والخبراء بشأن التأثير المحتمل لهذا الفوز وتلك الإنجازات علي مستقبل الهيمنة الأمريكية في عالم لا يزال إلي كونه أحادي القطبية أقرب. فثمة من ذهب إلي الادعاء بأن هذا الفوز يدشن مرحلة أفول تلك الهيمنة، حتي أن مفكرا أمريكيا من أصل ياباني بوزن فرانسيس فوكوياما لم يتورع عن الإعلان عن أنه ساند أوباما في حملته الإنتخابية الرئاسية وابتهج بفوزه كونه الزعيم الأقدر علي إدارة حقبة أفول أو غروب الهيمنة الأمريكية بإقتدار وبأقل خسائر ممكنة لأمريكا والعالم. وفي ذات السياق، سطر الكاتب الأمريكي الهندي فريد زكريا سلسلة من المقالات في مجلة "النيوزويك" الأمريكية عقب فوز أوباما أشارت في مضمونها إلي أن الرئيس الجديد هو الرجل الأقدر علي الاستجابة لعصر الأفول الأمريكي. وإلي غير هذا المنحي ذهب نفر آخر من المفكرين الأمريكيين. فمن جانبه، إرتأي روبرت كاجان في مقال نشره بجريدة واشنطن بوست الأمريكية عقب الإعلان عن فوز أوباما، أن أمريكا ستظل رائدة ومهيمنة ما بقيت راغبة في ذلك ومؤمنة بقدرتها علي الاستمرار فيه، وما برحت قياداتها وشعبها محتفظين بقوة عزيمتهم في هذا المضمار. واعتبر كاجان أن الآراء التي تذهب إلي اعتبار أن فوز أوباما يؤرخ لبداية الأفول الأمريكي إنما تفتقد للأسس والحجج العلمية الموضوعية، فلا أوباما اعتبر نفسه يوما ما كذلك ولا برنامجه الانتخابي حوي إشارات تشي بذلك، بل علي العكس كان الرجل متفائلا حريصا علي تعزيز مكانة أمريكا ودورها علي الساحة العالمية ومصالحة الأمريكيين مع أنفسهم ومع العالم أجمع توطئة لإعادة الفعالية لقوة أمريكا الناعمة، التي هي إحدي الركائز المهمة لريادتها وهيمنتها، وهو ما كان سببا مباشرا من أسباب تفوقه علي منافسه الجمهوري جون ماكين. ويعتقد كاجان أن مثل هذه الطروحات "الأفولية" ليست بالأمر المستحدث علي المجتمع الأمريكي، فهي عادة ما تتكرر علي رأس كل عقد من الزمن أو نحو ذلك، ففي أواخر عقد السبعينيات من القرن الماضي علي سبيل المثال، سقطت مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية أسيرة لادعاء تشاؤمي فيما يخص مستقبل القوة الأمريكية العالمية أطلق عليه وزير الخارجية الأمريكية في حينها سايروس فانس، "حدود القوة الأمريكية". وفي أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات من ذات القرن، تنبأ بول كينيدي بالسقوط الوشيك للقوة الأمريكية نتيجة لما أسماه "التمدد المفرط" لتلك القوة وعدم تناسب قدراتها الاقتصادية مع تطلعاتها الإستراتيجية.وفي أواخر تسعينيات القرن الماضي أيضا، حذر المنظر الأمريكي الراحل صموئيل هنتنجتون مما نعته "العزلة الأمريكية". واليوم، يروج البعض لما يسمي "العالم ما بعد أمريكي"، أو حقبة "الأفول الأمريكي". وفي مسعي منه لتفنيد تلك الطروحات "الأفولية" من قبل من أسماهم "الأفوليين" إعتبر كاجان أن جميعها كانت أضغاث أفكار إذ لم يتحقق أي منها حتي الآن فقد كانت نتاجا لظروف دولية ومحلية قلقة، كما يعتقد أن مروجي تلك الطروحات قد تناسوا أن جل الركائز الحقيقية والموضوعية للريادة والهيمنة لا تزال بحوزة الولاياتالمتحدة ويمكن للرئيس الجديد أن يتخذ منها قاعدة للانطلاق نحو آفاق أرحب لتلك الهيمنة وهذه الريادة مستقبلا، وإن أتيحت لبعض القوي الإقليمية أو الدولية بعض مظاهر التميز أو الريادة الشكلية غير الموضوعية في مجالات بعينها كالسياحة أو الترفيه علي سبيل المثال. فاقتصاديا، لا تزال حصة الولاياتالمتحدة من الاقتصاد العالمي تبلغ 21% حاليا، وهي نسبة لا تقل كثيرا عما كان الوضع عليه في تسعينيات القرن الماضي حيث كانت تلك النسبة تبلغ 23%، كما كانت في الثمانينيات 22%، وفي الستينيات 24%. أما بخصوص الأزمة المالية الطاحنة التي تعصف بالاقتصاد الأمريكي حاليا، فيري كاجان أن أمريكا ليست بدعا من دول العالم في هذا الخصوص فغالبية الاقتصادات الكبري تعاني هي الأخري من تلك الأزمة، التي سبق وأن دهمت الاقتصاد الأمريكي غير مرة في حقب زمنية مختلفة، بيد أنه نجح في تجاوزها مثلما هو الآن قادر علي ذلك بفضل تدخل الدولة وعبقرية التخطيط الاقتصادي الأمريكي ومرونة صناع القرار في هذا البلد الذين يسارعون في وضع الخيارات والحلول الكفيلة بتجاوز الأزمة في أسرع وقت وبأقل خسائر ممكنة.ومن ثم يظل الاقتصاد الأمريكي هو الأقدر عالميا علي تجاوز الأزمة والعودة إلي صدارة إقتصادات العالم مجددا. وعلي الصعيد العسكري، تبقي القوة العسكرية الأمريكية غير قابلة للمنافسة من جانب أية قوة عالمية أخري، وفيما يعترف كاجان بأن القوات المسلحة لكل من روسيا والصين تنموان بمعدلات متسارعة خلال السنوات القليلة الماضية، فإنه يؤكد أن معدل نمو القوة الأمريكية هي الأخري يتنامي بشكل أعلي وأسرع كما تتفوق الولاياتالمتحدة علي ما سواها فيما يتصل بالتطور العسكري التقني والأسلحة الذكية. وفي حين يقر بأن كلاً من روسيا والصين قد نجحتا إلي حد كبير في الاحتفاظ بفارق كبير في القوة العسكرية بينهما وبين جيرانهم وعدد لا بأس به من القوي الإقليمية والدولية، يعود كاجان فيؤكد أن الأمر مختلف مقارنة بالولاياتالمتحدة، التي تظل الأقوي والأكثر تفوقا علي طول المدي، وإن تقاعس بعض حلفائها عن تعزيز وتطوير منظوماتهم الدفاعية علي نحو منهجي مقارنة بروسيا والصين، اعتمادا من أولئك الحلفاء علي المظلة الدفاعية الأمريكية استنادا إلي مبدأ الراكب المجاني أو Free Rider . وبموازاة ذلك، يوقن كاجان بقابلية التشوهات التي طالت صورة أمريكا عالميا بجريرة السياسات المتخبطة لإدارة بوش السابقة، للمعالجة بل والتبدل إلي الأفضل، ذلك أن الآثار العلمية لتلك التشوهات تبقي ضبابية وصعبة الرصد، فليست صورة أمريكا هذه الأيام بأسوأ كثيرا من تلك التي بدت عليها إبان حقب زمنية سابقة، حيث لحقت بها تشوهات هائلة علي خلفية أخطاء وخطايا كبري طالت سياساتها في الداخل والخارج خلال سني الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي بدءا من عملية خليج الخنازير الفاشلة في كوبا عام 1961، مرورا بحرب فيتنام ومذبحة ماي لاي، ثم احتجاجات السود العنيفة التي اندلعت عام 1965 في لوس أنجلوس بسبب وحشية قوات الشرطة الأمريكية في التعامل مع أبناء الجالية السوداء، وكذا اغتيال جون كينيدي ومارتن لوثر كينج وروبرت كينيدي ثم فضيحة ووترجيت. ويراهن كاجان علي قدرة الرئيس أوباماعلي تفهم ذلك جيدا وإدراك مدي ضرورة إنعاش ركائز القوة اللازمة لاستعادة الريادة والهيمنة الأمريكيتين، والعبور بالأمريكيين ذلك النفق المظلم من توتر علاقات بلادهم مع دول كثيرة وتشوه صورتها في نظر شعوب عديدة، شريطة ألا يصغي هذا الرئيس الجديد لآراء المحللين والمفكرين ذوي النظرة الأفولية بشأن مستقبل مكانة أمريكا ودورها العالميين، حيث يعتبر كاجان أن الطريق إلي تجاوز أمريكا لمحنتها الحالية ونجاحها في الاحتفاظ بريادتها للعالم وهيمنتها عليه يبدأ من إيمان الأمريكيين، قيادة وشعبا، بأهمية الهيمنة وضرورتها لذلك البلد، ويقينهم بأن التداعيات السلبية لسياسات بوش الابن الرعناء لا يمكن أن تنال من مكانة أمريكا وهيمنتها، وثقتهم في إمكانات أمريكا وقدراتها الذاتية علي تصحيح الأخطاء وتعديل المسار بما يضمن تعزيز الريادة والهيمنة.وفي هذا السياق، لا يتورع كاجان عن مناشدة الأمريكيين جميعا من أجل رفض الآراء الانهزامية التي تزعم أن هيمنة أمريكا علي العالم وريادتها له بسبيلهما إلي الأفول التدريجي، داعيا إياهم إلي تجديد الثقة في قدرات بلادهم غير المحدودة والوقوف خلف قيادتهم الجديدة ودعم طموحاتها وتطلعاتها للحفاظ علي تلك الريادة وهذه الهيمنة، بل وشد أزرها وإعادتها إلي جادة الصواب، إذا ما جنحت يوما ما وتحت أية ضغوط داخلية أو خارجية، بإتجاه الإذعان لتلك الطروحات الأفولية المتشائمة.