عن المعونة والمعانين والمتعاونين صلاح الدين حافظ لم يعد سرا أن بند المعونة الاقتصادية والعسكرية أصبح يشكل محوراً للخلافات المتفاقمة بين مصر والولايات المتحدةالأمريكية، خلافات تتصاعد ثم تهبط، وتمضي المتوالية فترة بعد فترة. ولم يعد سراً أن أمريكا أصبحت تجيد استخدام معوناتها السنوية لمصر، سلاحا للضغط والتطويع، ومصر تقاوم الضغط أحيانا وتقبل التطويع أحيانا أخرى، لحاجتها الماسة لهذه المعونة التي تدفع مقابلها على الدوام. ولم يعد سراً أن السياسة الأمريكية فرضت في السنوات الأخيرة على هيئة المعونة الأمريكية، أساليب جديدة لتوزيع هذه المعونة خصوصا الاقتصادية، وفق أهداف تريد تحقيقها بشكل مباشر، بصرف النظر عن موافقة الدولة المصرية أو اعتراضها. وهكذا صحونا قبل أيام على واقعتين منشورتين في الصحف، تصدمان أي ضمير وطني، تلعب فيهما المعونة الأمريكية وأساليب صرفها وتوزيعها دوراً، نراه تخريبياً من الدرجة الأولى، وتقوم علانية بزرع الفتنة وتأجيج الخلافات بين بعض المسلمين وبعض المسيحيين في مصر، وهو ما لا يجب السكوت عليه. وبداية نعرف أن أزمة باتت معلنة بين القاهرةوواشنطن، حول تعليق مبلغ مائتي مليون دولار من المعونة العسكرية السنوية لمصر، حتى تستجيب مصر لشروط أمريكية، أبرزها تنشيط محاربة الإرهاب، وإيقاف تهريب الأسلحة إلى قطاع غزة، وضمان حرية واستقلال القضاء، وأظن أن الدولتين قادرتان على تسوية هذه الأزمة، مثلما فعلتا من قبل في أزمات أخرى، مما حافظ على حجم المعونة العسكرية بمقدار 3.1 مليار سنويا، بينما انخفضت المعونة من نحو 815 مليونا في السبعينات إلى نحو 400 مليون الآن. بينما الأمر على النقيض مع “إسرائيل"، أول وأكبر متلقٍ للمعونات الأمريكية في العالم، حيث تستحوذ حتى الآن على ثلاثة مليارات دولار سنويا، غير المساعدات والتبرعات الأخرى التي تصل بالمبلغ إلى عشرة مليارات على الأقل. إذا كانت هذه المعونات الأمريكية، قد تقررت، فهي جاءت نتيجة توقيع مصر لاتفاقية كامب ديفيد، ثم معاهدة السلام مع “إسرائيل" عام ،1979 والتزمت واشنطن بهذه المعونات دعما، كما قالت، للسلام والاستقرار في الشرق الأوسط، غير أن مضي نحو ثلاثين عاما إلا قليلا، صبغ هذه المعونات بألوانها وشروطها وضغوط على مصر، وبأخرى مناقضة لمصلحة “إسرائيل". لقد استغلت هذه المعونة، لتحويل مصر إلى سوق استهلاكية كبرى، وإلى نموذج من الاقتصاد الحر الذي يستطيع أن يندمج في النظام الرأسمالي الذي تقوده أمريكا ويدور في فلك تبعيته، ولذلك استخدمت أمريكا هذه المعونة لمساعدة فئات رأسمالية صاعدة في المجتمع المصري، ولتشجيع الدولة على سياسة الخصخصة وبيع القطاع العام وممتلكات الدولة وأصولها باسم إعادة الهيكلة، الأمر الذي نشهد نتائجه الآن ممثلا في الأزمة الاقتصادية الاجتماعية التي تخنق المجتمع المصري، وتزيد من مساحات الفقر لحساب تركز الثروة والسلطة في أيادي قلة قليلة من الأفراد والشرائح وجماعات المصالح المرتبطة فكريا وأيديولوجيا وماليا بأمريكا. *** ورغم أن دراسات موثقة تشير إلى أن 80 في المائة من القيمة المالية للمعونات، تعود سريعا إلى الاقتصاد الأمريكي، عبر شراء سلع محددة ونقلها بوسائل أمريكية، ثم عبر الرواتب الباهظة للخبراء الأمريكيين، إلا أن ما تبقى أصبح يصرف على مشروعات محددة تختارها واشنطن وتشرف عليها هيئة المعونة الأمريكية بناسها وخبرائها المستوردين والمحليين، لتضمن نتائجها. هنا تبدأ الواقعة الأولى، التي أشرنا إليها في مقدمة المقال، إذ نشرت صحف مصرية مختلفة يومي 22- 23 يوليو/ تموز الماضي أن هيئة المعونة الأمريكية أعدت خطة عمل بعنوان “الاتصال والتواصل مع المجتمع" تتكون من 71 صفحة، وتهدف الى تحقيق هدفين محددين، أولا: مجابهة ومحاربة أعداء أمريكا ومناهضي سياستها في المنطقة، وهم السياسيون والحزبيون والصحافيون والمثقفون المعادون، أما الهدف الثاني: فهو العمل لتحسين وجه السياسة الأمريكية بالتأثير في الرأي وترويج المشروعات التي تساهم فيها المعونة “لمصلحة الشعب المصري وخصوصا الفقراء". وتقترح الخطة أساليب متعددة لتحقيق هذين الهدفين، أهمها عقد اجتماعات دورية بين المسؤولين الأمريكيين ومسؤولي وخبراء وصحافيين وأكاديميين مصريين مرة كل شهر على الأقل (على غداء أو عشاء) لتصحيح أفكارهم وتحديث معلوماتهم عن فوائد المعونة الأمريكية وضروراتها في إسعاد الشعب المصري وتحديثه. وإدراكاً من واشنطن لحجم الكراهية المتزايد لسياساتها العدوانية والمنحازة، من جانب شعوبنا، فإنها بدأت هجوما مضادا لمحاربة كراهية سياستها، ولإعادة تحسين صورتها وتلميع وجهها، ولنا في تصريحات القيادات الأمريكية، وفي دراسات منشورة عديدة، الدليل الحي على ذلك. لقد بدأت أمريكا هجومها المضاد على الكراهية والكارهين، بحجة محاربة الإرهاب “الإسلامي" لكنها فشلت حتى الآن في حربي العراق وأفغانستان، فضلا عن الفشل “الإسرائيلي" التابع لها في فلسطين. لكنها الآن انتقلت إلى مرحلة جديدة من “حرب الأفكار" التي طالما رددها الرئيس بوش، وهي القائمة أولا على تسويق الديمقراطية الأمريكية نموذجاً يجب على شعوبنا تقليده والسير على قيمه وأفكاره. لكن الجزء الثاني من حرب الأفكار هو الذي يجري الآن على قدم وساق، وتقوم عليه هيئة المعونة الأمريكية وأموالها بالدور الرئيسي.. ونعني الطرق بقوة المال والنفوذ والتأثير في المنظومة الثلاثية لصناعة العقل والفكر وتوجيه الرأي والاتجاه، وهي التعليم والإعلام والثقافة، والطرق هنا يعني اختراق هذه المنظومة درجة بعد درجة، لكي يتغير المضمون والمناهج والبرامج، ابتداء من التربية الوطنية والوعي التاريخي والمفهوم الوطني والقومي، وانتهاء بتلقين العقول وتغذية الأفكار بأن أمريكا هي التي تساعدنا، وأن القيم والمبادئ الأمريكية هي صميم الديمقراطية ومحبة الشعوب، أما الحروب والكروب التي تحصد أرواح أشقائنا فهي ضرورة بيولوجية لحماية هذه المبادئ السامية! *** ولم يكن غريبا إذن تركز هيئة المعونة الأمريكية، على اختراق هذه المنظومة الثلاثية، أولا بحجة التطوير والتحديث، (نموذج المناهج الدراسية المعلبة)، وثانيا بإغراء التمويل السخي لتحقيق هذا التطوير، بشرط أن يتم كل شيء تحت الإشراف الأمريكي وبخبراء أمريكيين، أو محليين موالين. في هذا الإطار لم يعد سرا أن أمريكا قدمت 250 مليون دولار معونة لوزارة التعليم في إحدى دولنا لتطوير مناهج الدراسة على المقياس الأمريكي، وبالشروط السابق ذكرها، فضلا عن تقديم كتب المناهج الجديدة هذه مطبوعة جاهزة ولنا أن نتصور ماذا يمكن أن تتضمن هذه المناهج! ولم يعد خافيا على أحد حجم الاختراق الأمريكي لمنظمات الثقافة والصحف ووسائل الإعلام المختلفة في بلادنا.. باسم الصحافة الجديدة وباسم حرية الرأي تخترق المعونة الأمريكية عقولنا وثقافتنا وصحافتنا جهارا نهارا، ومثلما صار تلقي منظمات حقوق الإنسان ودعم الديمقراطية، معونات أمريكية أوروبية علنا دون خجل أو خوف أو حياء، صارت الصحف ودور النشر ووسائل الإعلام الحديثة الصدور تفعل الشيء نفسه. وإذا كانت الصحف الكبرى والمؤسسات القومية، قد فتحت أبوابها من قبل، لأموال المعونة الأمريكية، لتمويل مطبوعات متخصصة ولمساعدة مراكز الدراسات، ولتحديث المطابع، فإن الصحف الخاصة الجديدة المتكاثرة هذه الأيام وجدت في ذلك مرشدا ودليلا، فسارت على نفس المنوال، وقبلت، بل سعت للحصول على “شطيرة من الفطيرة" الأمريكية، حتى لو تناقضت أهداف المعونة الأمريكية وسياساتها مع مبادئها وسياساتها. وإذا كانت بعض الصحف الجديدة التي تدعو للديمقراطية وتروج لليبرالية، ترى في الدعم الأمريكي “الليبرالي" حقا لها فإن المذهل أن بعض أهل اليسار وقدامى دعاة التقدمية، ساروا هم أيضا على نفس المنوال.. كلام كبير وشعارات براقة على الصفحات، وقبض الأموال المشبوهة من خلف الصفحات، وذلك أحد وجوه الأزمة الذي يتطلب موقفا حازما من جانب الصحافة والصحافيين ونقابتهم. أما الأزمة الأشد والأعنف، فهي تلك المتعلقة باختراق أموال المعونة الأمريكية للصف الوطني، واستخدامها في تأليب الشعور الطائفي والتفرقة صراحة بين المسلم والمسيحي في المجتمع المصري، الذي لا ينقصه التأليب والالتهاب. وهذا هو محور حديثنا القادم بإذن الله دون حرج واستنادا إلى وقائع.
*** ** آخر الكلام: قال الشاعر:
وفي الصمتِ سترٌ للعيي وإنما صحيفةُ لب المرءِ أنْ يتكلما