التذاكي والاحتيال.. في سياسة التفاوض مع الفلسطينيين * ناصر السهلي الواضح في أول الأمر أن الطرف الفلسطيني "لا يجب أن يضيع الفرصة" حتى لا يتهم لا عربيا ولا غربيا باللاواقعية.. وهو ما جرى على لسان بعض الأطراف التي أضافت شيئا مثيرا إلى قصة "التنازل" باعتبار "مؤتمر الخريف" ليس مكان التفاوض.. ربما انطلاقة في بناء الثقة الشخصية حسبما أفادنا اولمرت.. بناء الثقة الشخصية يقولون، لكنهم لا يقولون شيئا عن الثمن.. الواضح أن الثمن هو مزيد من الشرذمة الداخلية الفلسطينية والانقسام والتهديد بإجراءات متبادلة بينما العدو المشترك يطلق سراح بضعة عشرات ويصطاد عوضا عنهم مئات... ترى ماذا كان جهد الرسمي الفلسطيني إزاء منع المصلين الوصول إلى الأقصى طيلة شهر رمضان.. والتسويف بقضية المعتقلين والاسرى أو على صعيد ترميم الوضع الداخلي؟ كان صفرا.. وعشرة على عشرة فيما يتعلق بفتل العضلات على الذات الفلسطينية عبر ذات الشخوص التي مل كل متابع للقضية الفلسطينية من تذاكيها المفرط.. في الجزئية الإعلامية المتعلقة بجملة من التصريحات الإسرائيلية المتبادلة بين حاييم رامون وايهود اولمرت، و إليهم ينضم هذه المرة افيغدور ليبرمان وجدعون عزرا لتكون الصعقة أكبر، يبدو ثمة "تنازل" نقلته وكالات الأنباء الدولية.. في المقابل يرحب الطرف الفلسطيني المعني بالتفاوض.. على اعتبار أن ليبرمان يمثل التطرف ومجرد تصريح لفظي انتقائي عن "تنازل" يعد انجازا.. قد تبدو الصورة مشوشة نوعا ما.. لكنها في الواقع ليست كذلك.. بعض التمحيص البسيط في حقيقة المواقف سيجلي دخان "الصعقة" التي أقدم عليها واحد من عتاة التطرف الصهيوني راهنا.. فمنذ سنوات والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تلعب مع الطرف الفلسطيني لعبة علاقات عامة ودعاية غير خافية على الكثيرين، فحوى قصة "التنازلات" باختصار شديد تكمن في جملة واحدة: تشدد.. لتبدو صاحبة مواقف تنازلية!.
من العجيب أن لا نرى في المعسكر الفلسطيني موقفا ولو من باب التكتيك التفاوض ي تقابل تشدد اليمين الإسرائيلي.. فحين يدخل ليبرمان وعزرا وحزب رحبعام زئيفي على الخط يبتر الطرف الفلسطيني علاقته بمن يحمل مشروع كل فلسطين.. على اعتبار أن الساحة لا تتسع إلا لمواقف معتدلة.. وهو على عكسه في الجانب الصهيوني.. الذي ما يزال يستخدم التعبير التوراتي للضفة الغربية..
في إسرائيل المأزومة ثمة "قاده" تطاردهم فضائح الفساد المالية والأخلاقية.. وفي إسرائيل هناك دوما جهد للخروج من المآزق على حساب الغير.. لعبة الهروب من الالتزامات ونقلها بين هذا الحزب وتلك الحكومة هي لعبة تاريخية .. بينما يقف الطرف الفلسطيني مبددا جهوده وعاجزا عن استثمارها سياسيا وتفاوضيا.. هي حقيقة منذ مدريد.. وأوسلو التي فتحت شهية الاحتلال على مزيد منه.. إنها اللعبة التي لم تقلع عنها الحركة الصهيونية ولم تغير في قواعدها قيد أنملة إلا حين أُجبرت على التخلي عن مقولة نتساريم مثل تل أبيب ! فالتشدد أمام الطرف الفلسطيني على الجبهات الثلاث: الإعلامية والتفاوضية والاحتلالية، أسهم في بروز واحدة من أسوأ مراحل التاريخ السياسي الفلسطيني وهي تلك التي ظلت تتعلق برفع سقف الشروط الصهيونية وانخفاض نظيره الفلسطيني حتى بات الجدار عنوان من عناوين الفعل الماضي ، طالما أن العبقرية أنتجت تفاوضا في الكواليس على مبدأ التبادلية.. صورة "الكومبرومايس" امام المجتمع الدولي ظهر الطرف الإسرائيلي على أنه أبوها وأمها ويقابله في الشق الإعلامي الدعائي طرف فلسطيني متشدد! يصرخ ساسة غربيون وعرب : إنهم يتنازلون.. هيا انتهزوا فرصة الحل الوسط.. في يوم ما، كان العالم ينظر إلى رام الله على أنها العاصمة الفلسطينية.. على اعتبار أننا صرنا أمام دولة.. وحين كانت ضاحية القدسالشرقية (أبو ديس) تشهد بناء مقر للمجلس التشريعي قال العالم: جيد.. الفلسطينيون بدءوا يدركون الواقع! الواقع الذي يراد منه بالمعنى التفاوضي أن يقبل الفلسطيني أي شيء يُطرح عليه لتثبيت القراءة بأن "العملية" تنجح.. أو كما يتذاكى بعض العرب بالقول : خذ ما هو ممكن وطالب بعد ذلك بالمزيد.. ويبدو أن السقف لما هو معروض أقل مما فجر الانتفاضة الثانية بعد رفض الرئيس الراحل عرفات التخلي عن مبدأ الانسحاب من القدسالشرقية وتعديل الحدود.. صحيح أننا ما نزال في الإعلام ننشد قصيدة "الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف".. إلا أنه في معسكرنا من أضاف حبة هال على قهوة كرمنا فأرفق القصيدة ب"... أو ما حولها.." .. للأسف الشديد تلك ليست مقولة بلا أسانيد.. فكم من "وثيقة" سميت على فلسطين وهي كانت مرة مع بيلين ومرات مع آخرين مثل رامون وما سمي بالأكاديميين ومجوعة جنيف.. وعلى تلك وغيرها يبني الطرف الصهيوني تفاؤله و"تنازله"... ربما يكون "العصف الدماغي" الذي جرى بين عباس و أولمرت .. وبعد ذلك بين مجموعات التفاوض الإسرائيلي- الفلسطيني.. أنتج فكرة جهنمية لاحت في لحظة حرجة لكي يثبت البعض أنه أكثر ذكاء من الآخر الفلسطيني .. في غزة مثلا أو خارجها..على الأقل فيما يخص قضية التفاوض.. لكن الناظر إلى هذا "العصف" الذي أنتج "التنازل الإسرائيلي" في " إعادة تقسيم القدس" لم ينتج في المقابل شيئا محددا يقول فيه الطرف الفلسطيني الذاهب إلى واشنطن: هذه هي شروطي وإلا فلا سلام .. أمعنوا جيدا.. فنحن أمام مراوغات إعلامية بامتياز.. " تقسيم القدس"!..
في الإعلام العربي "الاعتدالي" والدولي "اللامبالي" تصبح المسألة "تقسيم بين اليهود والعرب".. ويسيل لعاب البعض العربي عله يعيد بعض أمجاد أسقطها ما أسقطها قبل 40 سنة... فالعالم الراغب في تقديم أية "رشوة" تفاوضية سيعتبر ذلك "التنازل في القدس" ما لا يجب على الفلسطينيين رفضه... وللحقيقة ، لسنا سوى أمام صورة نصب واحتيال وخداع سياسي- إعلامي- تفاوضي كان ليبرمان العنصر المشوق فيها والضاغط على المفاوض الفلسطيني حيث تظهر صورة اولمرت المعتدل جدا والمهدد : لا تتركوهم يسحبوني نحو اليمين.. على ذكر اليمين، ففي جعبته "مشروع سلام" يقوم على التخلص من الشعب الفلسطيني "حفاظا على يهودية وديمقراطية الدولة".. اولمرت لم يخفي دوافعه الداخلية لهذه اللعبة الجديدة مع الفلسطينيين.. فهي فرصته التي لاحت بدون تقديم أي تنازل عن القدس التي تعتبرها القرارات الدولية محتلة.. هي تكمن في عدم التنازل عن أي جزء من القدسالمحتلة عدا نقل السلطة على 170 ألف فلسطيني.. تخلص من الفلسطينيين ليس إلا.. لنلاحظ القرار الاستيطاني الصهيوني في اليوم التالي لهذا الذي يسمى "تنازلا" وذلك بالاستيلاء على اراضي فلسطينية في محيط القدسالمحتلة تشمل 110 هكتارات مقسمة على بلدات ابو ديس والسواحرة والشرقية والنبي موسى والخان الاحمر! الطرف الفلسطيني الذي كان تاريخيا مطالب بالاعتراف بالقرار 242 فعلها بدون مقابل.. الطرف العربي الذي توج خياره السلمي الأوحد بمبادرة مر عليها ما يقارب 6 أعوام لم يحرك ساكنا إلا في فتح الأبواب الخلفية لدولة الاحتلال.. ولولا بعض الخجل لاندفع الجمع نحو واشنطن في مؤتمر الخريف لتبادل القبل والصور.. والآن نحن سنكون بصدد سجال مفتوح ننشغل من خلاله بالتمحيص عن كل جملة وفاصلة قالها الإسرائيلي، بينما يواصل المشروع الصهيوني تنفيذ ما بدأ بت بجدار فاصل ومبادرات فارغة المضمون.. يتم كل هذا وغيره وسقف مطالبنا ينحدر شيئا فشيئا.. حتى تصبح الجملة المشروطة ".. حسب القرارات الدولية ..بما فيها 194" جملة فضفاضة تناقش مشروع "... هدم المخيمات وتحسين حياة الفلسطينيين بدعم اقتصادي..." (راجع مشروع بيني آلون لإعادة الضفة إلى سيطرة أردنية وتفكيك المخيمات.. إنه مشروع تطهير عرقي مغلف بهالة إعلامية وضغوط دبلوماسية ليكون مشروع التنازل الصهيوني..) الكارثة ليست في التذاكي الصهيوني.. ولا إمعانه في نصبه واحتياله وإيغاله بالدم الفلسطيني... بل في الغطاء التفاوضي الذي نقدمه لمجرد قراءة البعض بأن مواقف جديدة قد طرأت وتستحق النقاش.. تحت طائل شعار شامير " جرجرة لعشرة أعوام أخرى.."! ** كاتب فلسطيني