باكستان ما بعد المسجد الأحمر بدر عبدالملك بدا انقلاب برويز مشرف عام 1999، آخر انقلاب عسكري عرفته باكستان ضمن سلسلة الانقلابات العسكرية منذ تأسيسها، إذ أكدت حكومة مشرف قبضتها القوية على النظام، في ظل ظروف وأوضاع وتوازنات داخلية وخارجية مختلفة. فعشية الانقلاب أعلن الرئيس أن فترته العسكرية لن تطول، حالما يرتب الوضع الداخلي، فقد كان نموذجه الأعلى تركيا العلمانية المسلمة بمجلسها العسكري، بوضع القبضة العسكرية على البلاد بينما يترك المجتمع المدني ومؤسساته الدستورية تمارس سلطاتها وصلاحياتها.
في تلك الفترة كان التحالف مع الإسلاميين مهما ضد أقوى مجموعتين مدنيتين علمانيتين مناهضتين لحكمه، مجموعة نواز شريف ومجموعة بناظير بوتو، وكلاهما يتمتعان بنفوذ شعبي واسع في الوسط المدني والعسكري، غير أن القوى الإسلامية وجدت فرصتها في تحقيق مكاسب تخدم مصالحها البعيدة، بل ولم يكن في صالح مشرف معاداة التيارات الإسلامية في الداخل، بينما في الجوار القريب هناك حكومة طالبان تتحكم وتدير أفغانستان، التي كانت على تناسق وتحالف وتعاون كبير مع كل الحكومات الباكستانية المتعاقبة.
ودخلت باكستان مع انقلاب مشرف حقبة جديدة، مارس فيها سياسة العصا والجزرة مع الإسلاميين، فمن جهة بدت الملاحقات والتضييق على العناصر المتشددة في باكستان واضحة للعيان، خاصة بعد تفجيرات الخبر وكينيا، في وقت بدأ الغزل والتفاهم مع التيارات الإسلامية المعتدلة، يفتح آفاقاً لقياداتها ويحقق لهم مواقع سياسية ومهنية في الحكومة الانقلابية الجديدة.
لم يدم التحالف وتماسكه الداخلي مع الإسلاميين أكثر من عامين، فمع تفجيرات أحداث سبتمبر عام 2001 وجدت حكومة مشرف نفسها معنية بتمتين تحالفها مع شريكها الاستراتيجي في مكافحة الإرهاب، خاصة وان باكستانوأفغانستان شكلتا خزان الإرهاب الذي هدد الولاياتالمتحدة ونفذ عمليات تاريخية مروعة لن تنساها الذاكرة العالمية، والأميركية على وجه الخصوص.
ونتيجة للضغط الأميركي اهتز التحالف الداخلي، حيث دمرت الولاياتالمتحدة حكومة طالبان، وتشرد عناصرها في الجبال والشريط الحدودي ما بين الدولتين، وكان على مشرف أن ينشر هناك 80 ألف جندي لتعقب المسلحين، الذين احتموا بالمنطقة الجبلية الوعرة، وكان عليه أن يحارب في تلك المنطقة، عاملي الطوبوغرافيا والديموغرافيا، وفي بيئة ثقافة إسلامية متشددة، وأمية عالية، وتقاليد قبلية معقدة وفقر شديد.
وعلى الرغم من تعليق عضوية باكستان في الكومنولث عشية الانقلاب احتجاجا على طريقة إدارة الحكم، غير أن أحداث سبتمبر أعادت أهمية دور مشرف في الكومنولث في مكافحة الإرهاب. وفي الوقت ذاته حاول مشرف تحقيق توازن بينه وبين القوى الإسلامية المعتدلة والمعارضة العلمانية، بإقامة محادثات سلام مع زعماء القبائل والمسلحين الموالين لطالبان، والذين كانوا على الدوام قادرين على تحريك تظاهرات في الشارع، مؤيدة بهتافاتها لأسامة بن لادن والملا عمر.
شهدنا احتقانا متزايدا منذ 2001-2005، وسلسلة من محاولات الاغتيال الفاشلة للرئيس، ونزاعات وخلافات مدنية في مناخ سياسي واجتماعي تسيطر عليه ذهنيات قبلية ودينية في الأطراف، وفساداً مالياً وإدارياً مستشرياً في المركز والعواصم الرئيسية.
ولم تنفع خطب مشرف وتعهده بنشر الإسلام المعتدل، إذ أغضبت المتشددين سلسلة الإجراءات التي بدأت تطالهم، فمن واشنطن كانت الضغوط مستمرة، بل وحتى من جارها ورئيسها قرضاي (2006) لاحقت باكستان تهمة التراخي في عدم جديتها في ملاحقة الإرهاب. وترك الجماعات الطالبانية تجول وتصول في أراضيها التي أصبحت مرتعا لهم ولمعسكراتهم التدريبية في المدارس الدينية، وصارت المنطقة الحدودية خزانهم ومركز خططهم وقادتهم ومحل إيواء الهاربين من الجنسيات المختلفة.
بين ضغطين داخلي وخارجي، وجد مشرف نفسه معنيا «بتنظيف اصطبلات اوجياس» فجاءت خطبه بأنه لن يتسامح مع التطرف، وسوف يستمر في مكافحة تهديد الإرهاب بتصميم وقوة. فانصبت تلك المكافحة في ملاحقات العناصر، إجراء سلسلة مراقبة المدارس الدينية وتوثيق طلابها، ترحيل الطلاب الأجانب ووقف تأشيرات الدخول لهم، مراقبة سجلاتها المالية، منع المتطرفين من جمع التبرعات والظهور بأسلحتهم، منع انتشار المطبوعات والتسجيلات التي تحض على الكراهية.
وبذلك شهد عام 2005 تصاعدا في المواجهة والاحتقان بين الإسلاميين وحكومة مشرف، حيث وجدنا شودري شوهات حسين رئيس حزب رابطة مسلمي باكستان، وهو الحزب الرئيس في الحكومة، قد حث الرئيس على إعادة التفكير في خطواته وإجراءاته.
ولكن الشرخ اخذ في الاتساع يوما بعد يوم، كلما لاحقت السلطات الحكومية بؤر الجماعات المتشددة، ابتداء من محاصرة 13000 مدرسة دينية، ومتابعة مدارس عند الحدود غير مسجلة. وأصرت الحكومة على التسجيل الرسمي وشددت قبضتها، في أعقاب تفجيرات يوليو 2005 في لندن.
وكان هناك ترابط دائم بين تفجيرات بريطانيا في عامي 2005-2007 وبين المدارس الدينية في باكستان. تلك المعلومات الاستخباراتية، عن دور المدارس المعلن والخفي، برزت أثناء الحوار بين هيئة الأوقاف المسؤولة عن 10 آلاف مدرسة، والاتحادات الخمسة التي تمثل المعاهد الدينية الإسلامية، حيث رفضت المدارس الدينية التسجيل إلا في حالة إلغاء اشتراط أن تكشف عن حساباتها المالية !!
وقد حاولت بعض الأصوات استنكار التهم، مثل مفتي منيب الرحمن الناطق باسم اتحاد تنظيم المدارس الدينية بقوله «إن المدارس لم تتورط بأعمال إرهابية ونشاطات مسلحة»، أما مولانا ولي خان المتحدث باسم هيئة الأوقاف فقد أشار بأصبعه لاتهام مشرف بأنه ينفذ أوامر أميركية قائلا «كنا نعلم انه سيتخذ هذه الخطوة لإرضاء أميركا والدول الغربية الأخرى».
وتزايد غضب المناطق الجبلية والإسلاميين المتشددين في أكتوبر 2006، عندما شنت طائرات باكستانية غارة على إحدى المدارس الدينية، وأدت إلى مقتل حوالي 80 شخصا، باعتبار أن المدرسة كانت معسكرا للتدريب، وكان من بين القتلى رجل الدين المتشدد مولاي لياقة الله حسين، وقد كان حسين من المطالبين بتطبيق الشريعة الإسلامية في المنطقة.
سيتكرر المسلسل مع المسجد الأحمر، الذي قاده عبد الرشيد غازي وكان يمارس تطبيق نمط طالباني في محيط إسلام آباد، ومع موتهما صارا شهيدي العقيدة في نظر الشبيبة والطلاب. ويقبع حاليا في السجن شاهزاد تنوير، احد المتهمين في أحداث بريطانيا الأخيرة، وبأنه درس في مدرسة إسلامية لمدة شهرين بباكستان، مما يجعل حكومة مشرف تحت ضغوطات جديدة، كان على أثرها تصعيد العمليات ضد المسجد الأحمر.
فماذا كانت نتائج العملية وتحقيقاتها الأمنية، تصعيد بين الطرفين، فمن جهة بدأت الحكومة في التمشيط وإعادة النظر في سياساتها، ومن جهة أخرى تصاعدت العمليات الانتحارية والتفجيرات في مناطق مختلفة من البلاد، كمؤشر جديد لامتحان القوة، وبأن باكستان مقبلة على منعطف تاريخي خطير يتجاذب فيه الصراع بين قوى العسكر والمجتمع المدني بكافة أطيافه، ويتم الاصطفاف والتحالف بين قواها.
فأين سيقف التيار العلماني المناهض لحكومة مشرف في هذا المأزق التاريخي؟ وكيف سيتصرف الإسلام المعتدل بعد مذبحة المسجد الأحمر، في مجتمع تتجذر فيه المسألة الدينية بطريقة مشوشة، تحكمها النزعة القبلية والأمية والفقر والتشدد والتقاليد؟ وكيف ستكون حال المدن الرئيسية والأطراف الصعبة ؟ وما هو مصير الدستور ومستقبل الحكومة في ظل وضع ينتظر إما الانتخابات الدستورية أو الدخول في حالة طوارئ مزمنة؟
ما قالته إحدى الطالبات في مقابلة مع قناة الجزيرة، ينذر بكلام خطير - وان كان قائماً على الحماس - ويدلل على الاستعداد الصارم والتحدي بمواجهة حكومة مشرف «وبأنهم - طلاب المسجد الأحمر - سيجعلون البرلمان احمر»، فهل تدخل باكستان حربا أهلية كحرب التنين، حيث رأسه قابع في الجبال وعند الحدود، وذيله المتعرج في كافة باكستان؟
أما أن يقتل التنين مشرف من خلال الاغتيال أو الإطاحة بالحكومة عبر العصيان المدني المدعوم بالعنف، أو الانقلاب العسكري، أو ينتصر الرئيس على التنين ويقتله في معقله الأخير، ويصطاد رؤوسه الكبرى.