فرنسا وتركيا والاتحاد الأوروبي ديدييه بيليون إن تتالي الأحداث الدالّة على العلاقات بين فرنسا وتركيا منذ عدّة أسابيع قد يبعث على الابتسام لولا خطورته وما يثيره من قلق في واقع الأمر. البرلمانيون الفرنسيون هم الآن بصدد سن تشريعات حول مشروع القانون الدستوري الخاص بإصلاح المؤسسات وقد تركز جزء من النقاش على تركيا.
للتذكير كان قد جرى في شهر مارس من عام 2005 تبنّي تعديل دستوري ينص على إخضاع قبول انتساب أية دولة للاتحاد الأوروبي إلى استفتاء شعبي، على الأقل بالنسبة للدول التي كان قرار الشروع بمفاوضات معها في أفق الانضمام سابقا للأول من شهر يوليو من عام 2004... وإذن تركيا.
وكان ذلك الإجراء تلبية لرغبة الرئيس الفرنسي آنذاك جاك شيراك. هكذا تمّ تبنّي البند 88 5 في سياق الحملة للاقتراع على الاتفاقية الدستورية الأوروبية بهدف فصل الملف التركي عن ملف الاتفاقية المعنية وبحيث يتم بذلك تجنّب انتصار ال »لا« في الاستفتاء. لكن عبثا؛ فالاتفاقية الدستورية الأوروبية السابقة رفضها المواطنون الفرنسيون دون أن يكون ل »المسألة التركية« أي أثر حاسم في النتيجة.
وفي تقرير لجنة التفكير حول المؤسسات التي يرأسها رئيس الوزراء الأسبق ادوار بالادور جرى التوقف أمام أهمية هذا البند 88 5. سكرتير الدولة للشؤون الأوروبية، جان بيير جويت قال أثناء الاستماع له من قبل اللجنة أنه يرى بوضوح حذف البند بكل بساطة.
هكذا اقترحت حكومة فرانسوا فيّون في مشروعها الذي طرحته للمناقشة حذف البند المذكور وترك الخيار لرئيس الجمهورية بشأن السماح بالتصديق على أية اتفاقية للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي إمّا عن طريق الاستفتاء الشعبي أو عن طريق الاقتراع من قبل المؤتمر العام للبرلمان؛ أي باجتماع موحّد للجمعية الوطنية الفرنسية ومجلس الشيوخ.
لم يقبل قسم من النوّاب اليمينيين هذا الاقتراح وطلبوا الاقتراع على تعديل طرحه 43 نائبا من حزب الرئيس بقصد جعل الاستفتاء إجباريا من أجل انضمام أية دولة يزيد عدد سكانها عن 5 بالمئة من مجموع سكان الاتحاد الأوروبي... وإذن تركيا. هذا القرار زاخر بالمعاني والنتائج.
البرلمانيون الذين اقترعوا لصالح هذا التعديل يستعدّون كي يدرجوا في نص دستوري عداءهم المتأصّل واللاعقلاني حيال تركيا. وهذا التعديل غير المقبول إذ أنّه متعصّب ضد بلد معيّن ويمثل سابقة لا مثيل لها في التاريخ الجمهوري لفرنسا. أعضاء مجلس الشيوخ فهموا ذلك جيدا وأعلنوا عن عدم موافقتهم ورفضوا التعديل .
خطورة هذا القرار ليست قانونية ولكنها بالأحرى سياسية. وعناد جزء من النواب اليمينيين يوازي تماما عدم فهمهم لرهانات البناء الأوروبي وللأهمية الكامنة لانضمام تركيا له. وهناك مثالان حديثا العهد يوضحان ذلك .
المثال الأول يتعلّق بالمفاوضات بين سوريا وإسرائيل. وبمعزل عن النتيجة الملموسة التي قد يتم التوصل إليها، يدرك الجميع أهمية الدور الذي تلعبه تركيا بتوصلها إلى الجمع بين دولتين بينهما خصومة كبيرة وأن تحقيق تقدم فعلي على صعيد ملف الجولان يمكن أن يغيّر المعطيات الإقليمية جوهريا.
وفي هذا الوقت الذي تثبت فيه تركيا قدرتها على القيام بمبادرات حول ملفات معقّدة يقوم بعض البرلمانيين الفرنسيين بتبنّي مواقف تتنافر تماما مع المتطلبات السياسية الراهنة في الشرق الأوسط.
في الواقع، من المؤسف أن يبدو الاتحاد الأوروبي عاجزا عن القيام بمبادرات تستحق هذه التسمية وصياغة اقتراحات محددة للمساعدة على إيجاد تسوية للنزاعات الإقليمية العديدة.
ولا شك أنه لو أبدى الاتحاد الأوروبي إرادة في هذا الاتجاه فقد يمكن لتركيا أن تلعب دورا لا يستعاض عنه. إن تاريخها وقربها الجيوسياسي عاملان أساسيان لجعل المبادرة الأوروبية أكثر فعالية.
ومن الواضح أن البرلمانيين الفرنسيين الذين يتمادون في عدائهم لتركيا يصعب عليهم الارتقاء إلى مستوى هذا الفهم وإلى مستوى مسؤولياتهم. فهل يريدون أم لا يريدون أن يكون للاتحاد الأوروبي أخيرا سياسة خارجية وأمن مشترك؟
وهل يفهمون أم لا أن الاتحاد الأوروبي يستحق أكثر من الانحياز شبه الدائم لسياسة واشنطن في المنطقة؟ وهل يفهمون أم لا أن انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي سيكون عاملا لزيادة قوة الطرفين؟ إن اتباع المنطق السياسي للتعديل الذي يقترحونه يعني للأسف إجابة سلبية على هذه الأسئلة.
المثال الثاني هو نتيجة استفتاء الايرلنديين على اتفاقية لشبونة ورفضهم لها. وبعد الرفض الفرنسي والهولندي لمشروع الاتفاقية السابقة عام 2005 يبدو التباين واضحا بين جزء هام من النخب وبين المواطنين الأوروبيين.
هذا وقد جاء الوقت الذي ينبغي فيه فهم وقبول أن المشروع الفيدرالي الأوروبي، أي الاندماج السياسي الكامل للدول الأعضاء، لم يعد فاعلا. هذا يعني أنه من الملحّ أن يعيد المسؤولون الأوروبيون النظر في الصيغ القائمة للاتحاد الأوروبي. إن ما تحتاجه الشعوب الأوروبية هي سياسات مشتركة حول مشاريع ملموسة مثلا على صعيد البحث والطاقة والبيئة والنقل.
ومن الضروري اليوم أكثر من أي وقت مضى ان يفهم الزعماء السياسيون الأوروبيون أن الاتحاد الأوروبي هو قضية تتعلّق بالشعوب والأمم التي يتكوّن منها. وعبر تحقيق ذلك يمكن للاتحاد الأوروبي أن يتجاوز الأزمة التي تنخر فيه منذ سنوات. ويمكن في هذا السياق إدراك أن المناورات ضد تركيا خارجة عن الموضوع تماما.
وتبيّن الأحداث البرلمانية المشار لها مدى ابتعاد النوّاب الفرنسيين عن الرهانات السياسية الحقيقية المطروحة اليوم في فرنسا والاتحاد الأوروبي والشرق الأوسط. وتركيا ليست سوى حجة بائسة من أجل مناورات سياسية داخلية صغيرة.
مع ذلك تنبغي الإشارة إلى أن النوّاب اليمينيين الذين اقترعوا لصالح التعديل المخزي الموجّه ضد تركيا لا يحظون بالإجماع في معسكرهم. أمّا نوّاب اليسار، الذين يشكلون الأقليّة، فقد اقترعوا ضد التعديل المقترح. والرأي العام الفرنسي ليس معاديا لتركيا. لذلك من المطلوب أن يستمر شرح الحقيقة الراهنة لتركيا وكبح ميول الانكفاء القومي على الذات التي تنتشر في فرنسا. عن صحيفة البيان الاماراتية 5/7/2008