بعد التصويت الفرنسي الصارخ ضد الدستور الأوروبي، والتصويت الهولندي اللاحق في نفس الاتجاه فمن الطبيعي أن تطرح الكثير من الأسئلة قد لا يكون لبعضها إجابات في الظروف الراهنة. طرح البعض السؤال التقليدي حول تأثير ذلك علي الاتحاد الأوروبي وهل تحطم الحلم الأوروبي في الوحدة علي صخرة الاستفتاءات الأخيرة، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد وقفة علي الطريق الطويل الذي تواصل من الناحية العملية أكثر من نصف قرن وعاش في مخيلة الأوروبيين منذ الثورة الفرنسية والوحدة النابليونية التي فرضت علي أوروبا بالسلاح في ذلك الوقت. ونسجل هنا بعض الملاحظات في محاولة لفهم أو تفسير ما جري قبل محاولة الدخول في مزادات ومناقصات التنبؤ بما يمكن أن تسفر عنه هذه الاستفتاءات الرافضة. * الملاحظة الأولي: هي أن الدول التي اختارت الاستفتاء علي الدستور الأوروبي وحتي الآن فيما عدا أسبانيا رفضت الدستور في حين أن كل الدول التي اختارت التصديق في البرلمانات حصلت علي أغلبية كبيرة لصالح الدستور "ألمانيا النمسا إيطاليا ودول وسط وشرق أوروبا". * الملاحظة الثانية: وهي مرتبطة بالأولي، ان الدول التي رفضت الدستور من خلال الاستفتاء مثل فرنسا وهولندا، كان من الممكن أن تكسب التصديق علي الدستور ببساطة لو طرح الأمر في البرلمان، حيث إن الأحزاب الرئيسية في تلك البلدان الحاكمة منها والمعارضة تساند الدستور، ففي فرنسا هناك في الجمعية الوطنية أغلبية واضحة للحزب اليميني الديجولي الحاكم وهو حزب الرئيس شيراك، كما أن الحزب الاشتراكي الفرنسي المعارض والذي يملك كتلة برلمانية كبيرة تدير الدستور، الأمر الذي يعني أن الأحزاب الأوروبية التقليدية "الليبراليون اليمنيون والاشتراكيون اليساريون" والتي ظلت تشكل التوازن والتعادل في حكم أوروبا طوال نصف القرن الماضي أي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، هذه الأحزاب أصبحت إلي حد كبير بعيدة عن نبض الشارع الأوروبي. * يسوقنا ذلك إلي الملاحظة الثالثة بأن الانقسام الذي جري في تجربة الاستفتاء الفرنسي والهولندي لم يكن انقساماً طبقياً أو حزبياً حيث إن الأحزاب الحاكمة والمعارضة الرئيسية كانت مع الدستور، ولكنه انقسام رأسي فقد وجدنا الشيوعيين يصوتون مع أنصار لوبان في الجبهة الوطنية (اليمينية المتطرفة) ضد الدستور، كما رأينا انقساماً واضحاً داخل الحزب الاشتراكي الفرنسي الذي أيدت قيادته الدستور بينما عارضته القواعد الجماهيرية مثل اتحاد العمال والاتحادات المهنية المرتبطة بالحزب الاشتراكي، وجري نفس الأمر بالنسبة لحزب الخضر والبيئة.. نحن أمام ظاهرة جديدة تفرض نفسها علي الساحة الأوروبية تعني بوضوح فقدان الثقة في الأحزاب التقليدية، الأمر الذي يكشف أن الطبقة الوسطي وقطاعات واسعة من الطبقات الشعبية لم تعد تري في أي من الأحزاب القائمة قدرة علي تحقيق مصالحها الخاصة، خاصة بعد أن تدهورت أحوال هذه الطبقة وحوصرت بعد انطلاق الآليات الرأسمالية في ظل العولمة الاقتصادية الجديدة التي تفتح الأسواق بلا حدود وتطلق المنافسة الشرسة بلا قيود سعياً وراء الربح والمكسب حتي علي حساب القيم والإنسان المنتج نفسه. هذه الملاحظات مع وجود ملاحظات أخري تساعد علي فهم التصويت السلبي ضد الدستور الأوروبي من جانب الجماهير الفرنسية والهولندية، رغم أن مشروع الدستور الأوروبي الحالي كان متهماً بأنه دستور علماني وفرنسي الهوية خاصة بعد أن نجحت فرنسا ومعها ألمانيا وإنجلترا في استبدال نص سابق في المشروع حول الجذور المسيحية واليهودية واستبداله بالجذور والقيم الإنسانية والروحية، أيضاً استطاعت تلك الدول أن تضع في الاعتبار حجم سكان كل بلد في اتخاذ القرارات وتشكيل البرلمان والهيئات التنفيذية حتي لا تساوي لوكسمبورج (400 ألف نسمة) مع ألمانيا (74 مليوناً). لقد ظل مشروع الدستور الأوروبي مطروحاً طوال السنوات الأربع الماضية وخضع للكثير من المناقشات والتعديلات حتي وصل إلي صيغته الأخيرة التي وافقت عليها قمة بروكسل في العام الماضي، علي أن يطرح المشروع للتصديق عليه من جميع دول الاتحاد (25 دولة) ويدخل حيز التنفيذ ابتداءً من 2009. ومن الواضح أن القضايا الخاصة بالدين أو حتي بالكثافة الكائنة لكل بلد لم تعد هي العامل الأساسي المحرك للجماهير الأوروبية، ولكنها الظروف الاقتصادية ومحاصرة الطبقة الوسطي والتقليل من الإنجازات الكبيرة التي حققتها دولة الرفاهية الأوروبية في الماضي، بما في ذلك من ضمانات اجتماعية وصحية وتعليمية واسعة. والشعار الأساسي الذي جمع الرافضين للدستور في فرنسا وهولندا هو أنه ليبرالي أكثر منه اجتماعيا، بمعني أنه يمضي علي أسس العولمة الاقتصادية الشرسة علي حساب المكاسب الاجتماعية التي حققتها تلك الدول، خاصة الطبقة الوسطي والتي كانت هي الطبقة الحاكمة في الأساس طوال نصف القرن الماضي إن الارتفاع المخيف في نسب البطالة في دول غرب أوروبا "بين 9 إلي 12%" وتدني نسب النمو "من صفر إلي 1.5%" والتقليص المستمر في ميزانيات الخدمات الاجتماعية والصحية، هو الذي دفع قطاعات واسعة من الطبقة الوسطي إلي الانضمام إلي الشرائح المهنية والعمالية في رفض الدستور خاصة بعد انضمام دول وسط وشرق أوروبا "10 دول" في مايو سنة ،2004 واحتمال انضمام بلدان أخري مثل رومانيا وبلغاريا، وتركيا، وهي كلها دول طاردة للعمالة الأمر الذي يهدد أوضاع العمالة والبطالة المتفاقمة بالفعل في غرب أوروبا. ونعود في النهاية إلي السؤال المطروح.. هل عصفت نتائج الاستفتاء في فرنسا وهولندا بحلم الاتحاد الأوروبي، أم أن الأمر لا يتعدي أزمة دستورية طارئة وإعادة صياغة دستور يلبي طموحات الطبقة الوسطي الأوروبية.. أغلب الظن أن الأمور ستمضي علي هذا الطريق..