أردوجان ومفاجأة العيد لإسرائيل محيط – جهان مصطفى رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوجان رغم أن إسرائيل كانت تعول كثيرا على محاولات الابتزاز التي مارستها بدعم أمريكي منذ مجزرة أسطول الحرية لإضعاف شعبية رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوجان إلا أن الرياح جاءت عكس ما أرادت تماما . ففي 12 سبتمبر / أيلول ، وجه أردوجان ضربة قاضية لجميع أعدائه في الداخل والخارج عبر موافقة الناخبين الأتراك بأغلبية كبيرة على التعديلات الدستورية التي كان اقترحها في وقت سابق من هذا العام والتي تتعلق أساسا بتقليص صلاحيات الهيئات القضائية العليا المناهضة للحكومة والتي تعد معقل الدفاع عن علمانية الجمهورية التركية وحصنها الحصين ، بالإضافة إلى إخضاع أفراد الجيش للمحاسبة أمام المحاكم المدنية. ويبدو أن توقيت إجراء الاستفتاء على التعديلات الدستورية في 12 سبتمبر والذي جاء متزامنا مع ثالث أيام عيد الفطر المبارك وفي ذروة احتفال الأتراك بالمركز المتقدم غير المسبوق الذي حققه منتخبهم في بطولة كأس العالم لكرة السلة والتي أقيمت في مدينة اسطنبول كان له أثر إيجابي في إحباط المؤامرة الإسرائيلية الأمريكية ضد أردوجان . فمعروف أنه بعد فشل اللوبي الصهيوني وإدارة أوباما في ابتزاز تركيا ودفعها للتراجع عن موقفها ضد إسرائيل بعد مجزرة أسطول الحرية ، كشفت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية أن استراتيجية تل أبيب في الانتقام من حكومة أردوجان تقوم على ممارسة الضغوط الأمريكية من ناحية وإثارة الاضطرابات داخل تركيا من ناحية أخرى ، وأخيرا التلويح بموضوع "مذابح الأرمن" ، حيث قررت لجنة العلاقات الخارجية في الكنيست الإسرائيلي عقد جلسة خاصة لمناقشة ما وصفوه ب "مذبحة الأرمن" كيدا في تركيا وتشهيرا بها. هذا فيما بدأت واشنطن تروج لدعاية مفادها أن تركيا تعبث بأرجاء المنطقة وتقدم على أفعال تتعارض مع ما ترغب فيه القوى العظمى ، بل وقام بعض النواب الجمهوريين والديمقراطيين في الكونجرس الأمريكي بتحذير تركيا صراحة في 17 يونيو الماضي من عواقب استمرارها فيما اعتبروه عداء لإسرائيل . وقال النائب الجمهوري مايك بنس في هذا الصدد إن تركيا "ستدفع الثمن" إذا استمرت على موقفها الحالي من التقارب مع إيران وزيادة العداء لإسرائيل ، كما وصف النائب الديمقراطي إليوت أنجيل أفعال تركيا بأنها "مخزية" ، هذا فيما وقع 126 عضوا في مجلس النواب الأمريكي رسالة طلبت من الرئيس أوباما معارضة أي إدانة دولية لإسرائيل بسبب عدوانها على أسطول الحرية. مخطط الاغتيال ولم يقف الأمر عند ما سبق ، بل إنه في 24 يونيو الماضي ، كشفت صحيفة "المجد" الأسبوعية الأردنية أن أجهزة الأمن التركية أحبطت مخططا لاغتيال أردوجان على يد خلايا تركية وكردية مرتبطة بالموساد . وأضافت الصحيفة نقلا عن مصادر مطلعة في أنقرة أن تعيين حقان فيدان رئيسا لجهاز الاستخبارات القومي التركي يأتي في سياق تعزيز وتفعيل دور هذا الجهاز في حماية الأمن القومي التركي ورموز حزب العدالة والتنمية الحاكم بعد توارد معلومات مؤكدة تفيد بأن جهاز الموساد يبحث في إمكانية تنفيذ عمليات اغتيال عن طريق حزب العمال الكردستاني المحظور أو خلايا تركية على صلة به تستهدف أهم الشخصيات التركية لإحداث فوضى في البلاد والضغط على أردوجان لتغيير سياسة التقارب مع العرب والفلسطينيين . ولفتت المصادر السابقة إلى أن تعيين فيدان أثار قلق الإسرائيليين الذين عبروا عن ذلك علناً نظراً لأن فيدان كان أحد مستشاري أردوجان قبل أن يعين بعد مجزرة أسطول الحرية في هذا المنصب ، فضلا عن عضويته في حزب العدالة والتنمية الحاكم . ورغم أن البعض في العالم العربي يشكك في نوايا حكومة أردوجان بالنظر إلى أنها لم تقم بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل عقب مجزرة أسطول الحرية ، إلا أن تقليص العلاقات العسكرية والاستخبارية مع تل أبيب لا يقل أهمية بالنظر إلى أن التعاون العسكري والاستخباراتي طالما استفادت منه إسرائيل في تهديد الدول العربية وخاصة سوريا في ظل الحكومات العلمانية التركية السابقة . وبعد موافقة الناخبين الأتراك على التعديلات الدستورية التي اقترحها حزب العدالة والتنمية الحاكم ، فإن أردوجان بات في موقف أكثر قوة عن ذي قبل فيما يتعلق بمواجهة محاولات الابتزاز الإسرائيلية والأمريكية ، بل إنه حصل على ما يشبه الضوء الأخضر شعبيا لمعاقبة تل أبيب وضمان عدم إفلاتها من العقاب . أسلمة تركيا وبالنسبة للداخل التركي ، فإن نتائج استفتاء 12 سبتمبر لا تعتبر فقط تصويتا شعبيا على سياسات أردوجان وإنما تعتبر أيضا كلمة السر في الإسراع بتحقيق هدفه الأسمى بإعادة الهوية الإسلامية لتركيا بعد عقود من العلمانية والانقلابات العسكرية . صحيح أن حكومة أردوجان فشلت بتمرير تعديل دستوري يضع قيودا على حظر الأحزاب ، إلا أن الموافقة على أغلب التعديلات التي قدمتها للبرلمان في إبريل الماضي تعجل بإضعاف آخر قلاع العلمانية الحصينة المتمثلة في القضاء والجيش . بل ويبدو أن أردوجان حسم مبكرا أيضا نتائج الانتخابات العامة في 2011 لصالحه بعد تراجع مصداقية المعسكر العلماني بشدة إثر تفجر عدد من الفضائح من أبرزها الكشف عن مؤامرتي "أرجينيكون و"بليوز " اللتين كانتا تخططان للإطاحة بحكومة أردوجان ، وأخيرا الكشف عن فضيحة "بايكال" الجنسية . وكان دينيز بايكال زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض الذي يعتبر من أبرز المدافعين عن رموز العلمانية استقال من منصبه مؤخرا بعد أن نشرت مواقع على الإنترنت في 6 مايو / أيار تسجيل فيديو يظهر فيه وهو في وضع مخل مع إحدى عضوات حزبه ، الأمر الذي أثار حينها ضجة واسعة في تركيا وزاد من شعبية أردوجان ، بل إن تحركات الحزب للطعن في التعديلات الدستورية أمام المحكمة الدستورية لإبطالها لم تجد آذانا صاغية بعد تفجر الفضيحة السابقة . ولعل ما يضاعف من فرص حسم أردوجان مبكرا للانتخابات العامة المقبلة أن التعديلات الدستورية التي تمت الموافقة عليها في استفتاء 12 سبتمبر تفي بالشروط التي وضعها الاتحاد الأوروبي لانضمام تركيا إليه . وتبقى حقيقة هامة وهي أن حكومة أردوجان تسير بتركيا على طريق إعادة الهوية الإسلامية عبر التمسك بالديمقراطية ومبادئ العلمانية نفسها ما يضع مؤيديها في حرج بالغ ليس أمام الأتراك فقط وإنما أيضا أمام العالم بأكمله . وبصفة عامة ، فإن حزب العدالة كان أمام اختبار حقيقي في 12 سبتمبر ، فإما النجاح في تحقيق الثورة الدستورية التي يرغب من ورائها الإصلاح والتغيير مستنداً إلى الشعبية الجارفة التي يتمتع بها قائده أردوجان وإما الإخفاق في إنجاز تلك التعديلات وهو ما يهدد مسيرة الإصلاحات التي يقودها الحزب على طريق أسلمة تركيا منذ وصوله للسلطة في عام 2002 . ويبدو أن الاختبار حسم أخيرا فيما يتعلق بنظرتين مختلفتين للدولة والمجتمع والدين وآلية إدارة البلاد وخياراتها السياسية ، حيث اكتسح نهج أردوجان وبشكل سبب صدمة كبيرة لأعدائه في الداخل والخارج . التعديلات الدستورية ويجب الإشارة هنا إلى أن هذا الإنجاز التاريخي ظهرت بوادره عندما نجحت حكومة أردوجان في 7 مايو الماضي في تمرير حوالي 27 تعديلا جديدا بالدستور التركي رغم معارضة المعسكر العلماني الشديدة . وتهدف التعديلات الدستورية السابقة إلى تغيير طريقة تعيين قضاة المؤسسات القضائية العليا بما فيها المحكمة الدستورية التي تعد سيفا مسلطا على رقبة الأحزاب السياسية كما تشمل أيضا إصلاحات دستورية عدة لالتزام معايير الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالحقوق الشخصية وحماية الأطفال والحقوق النقابية. وبالإضافة إلى ما سبق فإن التعديلات تشمل أيضا تقليص صلاحيات المحاكم العسكرية وإخضاع العسكريين للمحاكمة أمام المحاكم المدنية في التهم الجنائية وإلى إلغاء مادة مؤقتة في الدستور تمنع محاكمة أي من المشاركين في انقلاب 1980. وبسبب عدم حصول التعديلات السابقة على ثلثي أصوات البرلمان " 367 من أصل 550 " الضرورية لإقرار تعديل دستوري من دون استفتاء فإنه تقرر طرحها على استفتاء عام في 12 سبتمبر 2010 . وبعد أن وافق أغلبية الأتراك على التعديلات السابقة بنسبة تجاوزت بكثير الشرط المطلوب لإقرارها وهو تصويت أكثر من 50 في المائة من المشاركين في الاستفتاء ، فإنه سيتم إعادة هيكلة المحكمة الدستورية ومؤسسة القضاء في شكل يمنح الحكومة دوراً أكبر في تعيين القضاة واختيارهم وانتقاء أماكن عملهم. بل إن الناخب التركي يكاد يكون حسم نهائيا معادلة الاختيار بين مرحلة الانقلابات وتاريخها الأسود التي قادها الجنرال كنعان إيفرين عام 1980 حيث تم إعدام مئات النشطاء السياسيين وحظر الأحزاب السياسية وبين ومرحلة التخلص من سيطرة النظام العسكري ، حيث نجح أردوجان في وضع نهاية لتحكم العسكر في الوضع الداخلي التركي بما يؤدي إلى حسم الصراع الدائر منذ سنوات في تركيا بين العسكر والمدنيين لصالح الحكم المدني. واللافت للانتباه أن طموحات أردوجان لن تقتصر على ما سبق ، فهو أعلن مرارا أن اللباس أصبح ضيقا جدا على تركيا في إشارة إلى أن الدستور الحالي الذي أقره الجيش سنة 1982 بعد انقلابه على الحكومة المدنية سنة 1980 لم يعد يناسب طموحاته في أن تلعب بلاده دورا إقليميا وعالميا أكبر ولذا يتوقع أن يقوم في النهاية بوضع دستور جديد بعد أن نجح في تعديل حوالي 100 من أصل 170 بندا في الدستور الحالي منذ وصوله للسلطة في عام 2002 . والخلاصة أن أردوجان وبسياسة ذكية جدا نجح في تحقيق خطوات ثابتة على طريق أسلمة تركيا واختراق مؤسسات المعسكر العلماني في الجيش والقضاء والجامعات رغم أن الظاهر على السطح هو أنه يلبي فقط متطلبات الإصلاح والانضمام للاتحاد الأوروبي .