حول ذكر أفعال الرجال وتخليد مآثرهم إغريقا وبرابرة وتوثيق أفعالهم المجيدة، كانت أبحاث هيرودوت الهاليكارناسي فوضع بذلك هدفا لتأريخه وهو وصف أعمال لن تنساها البشرية أبدا، كما يرد في مقدمة تاريخ هيرودوت والذي يقدم خطته في رواية الأحداث في تاريخه وعرضها راويا.. قصص المدن الصغيرة والكبيرة سواء بسواء، ذلك أن ما كانت مدنا زاهرة ذات يوم غدت صغيرة ذاوية الآن في نظر أبو التاريخ، كما أن المدن الصغيرة قديما باتت حواضر زاهرة في أيامه، فبدا حريصا في تاريخه أن يولي الكبير والصغير اهتمامه.. إلا أن القارئ لتاريخ هيرودوت الذي يفرد صفحاته لعالم واسع فسيح مترامي الأطراف يشمل العالم المعروف آنذاك وما وراءه من القرن الخامس قبل الميلاد، ويعرض لتاريخ الأقوام المتعددة فيه ويرصد أعمالها وآثارها، يعيش مع أبو التاريخ لحظات من الإمتاع مع الحكايات العجيبة التي يوردها في تاريخه والذي كان شغله الشاغل طوال فترة طويلة من عمره بلغت الثلاثين سنة قضاها في استقصاء أخبار الأمم وأحوالها والحروب التي خاضتها، ففي خضم هذا التاريخ الذي يرويه هيرودوت، تطالعك الحكايات العجيبة التي تبلغ حدود الخرافة والأسطورة. ففي تاريخ هيرودوت نجد من عجيب الحكايات والأساطير ومن غريب العادات التي يرويها الكثير، بعد سماعه لها مروية ومتداولة على ألسن بعض الرواة من الرحالة والمسافرين الذين يلتقيهم في طريقه، فينقل مثلا ضمن هذا السياق من العجائبية في رواية تصف شمال القارة الأوروبية وهو موطن واحد من الشعوب الذين حفظ ذكرهم في تاريخه وهم شعب السكيث بأن الريش يملء الجو هناك، ذلك أن الجو والأرض يبدوان وكأنهما مغموران بالريش وهي لاشك إشارة طريفة إلى ندف الثلج، ويورد عن هذا الشعب وصفا شيقا لإحدى عاداتهم في حلب أفراسهم، حيث يقحم السكيثيون في شرج الفرس أنبوبا من العظم له شكل الناي، ثم يقوم أحدهم بالنفخ فيه، بينما يتولى آخر حلب أثداء الأفراس، مقصدهم من ذلك تضخيم العروق في جسد الفرس بقوة الهواء فيسترخي الضرع ويدر الحليب كما يوضح هيرودوت، ويورد وصفا في تاريخه لعادات إحدى القبائل البدوية في الهند تتثمل في إنه إذا أصيب أحد الأفراد بينهم بمرض ما يقوم أصدقاؤه المقربون بقتله، مبررين ذلك بأن لحمهم سيفسد إذا ما تركوا الأمراض تضعفهم، ومهما حاول المريض أن يؤكد لهم بأنه سليم فإن أصدقاءه يرفضون تصديقه ويقدمون على قتله وسط مأدبة تقام بهذه المناسبة. ومن أغرب الروايات التي ترد في تاريخ هيرودوت، تلك التي تتعلق بالأفاعي الطائرة التي تغزو مصر وهي صغيرة الحجم وذات ألوان عديدة وتتواجد في أسراب هائلة كما يصفها هيرودوت، والذي نكتشف في الأخير إنه يعني الجراد الذي يحدد موطن انتشاره في بلاد العرب الذين أسهب هيرودوت في وصف مناقبهم في تاريخه، فما من أمة تحترم العهود وتقدسها مثل العرب في نظره، فمن ضمن العادات المعروفة عنهم كما يروي هيرودوت إذا أراد رجلان من العرب أن يوثقا العهود بينهما، فانهما يقفان على جانبي رجل ثالث، يحمل حجرا حادا يستخدمه لجرح راحتي يديهما بالقرب من أسفل الإبهام، ثم يأخذ بعض خيوط الصوف من ثيابهما ويغمسها بدمهما ويلطخ بها سبعة أحجار تقع بينهما. لقد تم ترجمة هذا السفر القيم وصدوره ضمن منشورات المجمع الثقافي بأبوظبي. ** منشور بصحيفة "الوطن" العمانية 27 يونيه 2009