يثبت، مع كثير من الأسف والاندهاش!، في بداية هذه المقالة بأنه إذا كانت نشأة الدول العربية مرتبطة بالاستعمار الفرنسي والبريطاني والإيطالي ثم الأمريكي أو ما يصطلح عليه في التاريخ (اتفاقية سايكس بيكو 1916)،فإن "الجماعات الإسلامية الاحتجاجية"-ونقصد هنا المسيّسة بالطبع- هي صنيعة الأجهزة الاستخباراتية لهذا الاستعمار الذي أسس وكرّس "الرؤية والأداء الأمنيين" لهذه الدول، وتولى مسؤولية تمويلها ودعمها (برنامج المحظورة-1-النشأة والتكوين). ويثبت أمر آخر، خلال القرن العشرين، بأن هناك فارق كبير بين نشأة حركات التحرر العربي في صورها الليبرالية والقومية واليسارية( الأحزاب الشيوعية أولها 1934 أو حزب البعث العربي الاشتراكي 1947 أو حركة القوميين العرب 1948) بوصفها فعل حركي للأمة العربية بحسب مكونات واستعداد وظروف ذلك العصر، وبين نشأة "الجماعات الإسلامية العسكرية" بوصفها رد فعل لإنهاك وتشتيت طاقة الأمة العربية سواء في جماعة الإخوان المسلمين (1928-...) أو القاعدة (1988-2000)، ويخرج من بينها جماعات إسلامية غير معسكرة مثل جمعية أنصار السنة المحمدية (1925) أو جماعة التبليغ والدعوة(1926) أو حزب التحرير (1953) لكنها تعبر في مجملها عن بعثرة الطاقة العربية. ولا ينكر الطابع الارتزاقي لهذه الجماعات في أهدافها وسياساتها، ولو تخرج عنها بالدرجة لا النوع المؤسسات الدينية ذات الطبيعة الوظيفية الراضخة لحاجة الحاكم السياسي وهواه، وهو ما ينطبق على "النخاسة السياسية الإيرانية" لأبناء الطائفة الشيعية الجعفرية لصالح سياساتها "حزب الله" كجناح عسكري(نشأ عام 1982) وفروعه توالت بعد ذلك سواء في دول الخليج العربي (الكويت والبحرين والسعودية) أولبنان وسوريا أو لأقدم من ذلك ينطبق الطابع الارتزاقي ل"الإخوان الوهابيين" (1910-1929) التي تكونت من عناصر قبلية حديثة وظفت عسكرياً لحروب التأسيس فانتهى دورها بعد إتمام المعارك التي نتج عنها لاحقاً تأسيس المملكة العربية السعودية 1932، وصفيّت هذه الجماعة بعد تمرد قاده أحد زعماء مقاتليها في معركة السبلة 1929، وأعيد تأهيل من استجاب ل"لإذعان السياسي" من هؤلاء البدو العسكر في قطاعات مثل: هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 1940، والحرس الوطني 1954. وينطبق على هذه الجماعات في كونها نتاج الطابع الاستعماري أو الارتزاقي أن تعد كجماعات وظيفية ضمن المفهوم السياسي والحاجة الدولتية أي أنها متخصصة في أداء "الأعمال القذرة"أو dirty business. وهم لا يبعدون، في المعنى السياسي الإجرائي، عن كونهم "مماليك جدداً" فإذا كان تعريف المماليك الذين حكموا مصر من 1250 إلى 1517 هو الإشارة إلى "العبيد البيض الذين يؤسرون في الحروب أو يشترون من الأسواق، [فيستخدمون كجنود بالجيش أو حرس ]، وما لبثوا أن استولوا على الحكم في نهاية حكم الدولة الأيوبية بمصر". ولا يغرب عن الذهن بعد تصفية حركات التحرر العربي في صورها الليبرالية والقومية واليسارية، وهي تصفيات منظمة بالاعتقال والتعذيب وأحكام اعتسافية للحركات الوطنية في الدول العربية التي انطلقت بعد فترة قليلة من نشأتها منتصف القرن العشرين حتى الربع الأخير من القرن العشرين، أو عسكرتها لتسويغ سياسات الاستبداد العسكري، مثل: العراق وسوريا والجزائر، فدخلت الدول العربية عصر الانكسار السياسي إثر هزيمة احتلال الأجزاء الباقية من فلسطين، وعجز الدول ذات الطابع العسكري عن فعل أي شيء لاسترداد أو تحرير فلسطين. شجعت معظم سياسيات الدول العربية للجماعات الإسلامية لتبرز وتحتل الفضاء الإعلامي والاجتماعي والثقافي محاولة عبر"الحماقات السياسة" لتحقيق "الطاعة السياسة" للنظام العالمي الجديد أو مشروع الشرق الأوسط الكبير، وسبحت المجتمعات العربية في عصر سيولة "سرطان سلفي/ جهادي/ تكفيري"،خاصة، لكثير من سجناء ومعتقلي الجماعات الإسلامية، ومثلتها جماعة التكفير والهجرة(1965) في مصر، وكل من جماعتي الدعوة المحتسبة (1966-1979)، وجماعة الصحوة (1979)في السعودية حيث توجهت هذه الجماعات إلى صراعات "تنكيدية –إجرامية" سواء في دعاوى احتساب أو تكفير أو اغتيال شخصيات سياسية وإعلامية وثقافية لعل من أشهرها إصدار كتاب" الحداثة في ميزان الإسلام"(1988) لعوض القرني احتساباً ضد المثقفين السعوديين التنويريين أو مناظرة الشاعر غازي القصيبي مع ممثلي "جماعة الصحوة" ناصر العمر وسلمان العودة التي أصدرها في كتاب"حتى لا تكون فتنة"(1990) أو اغتيال فرج فودة 1992 أو محاولة اغتيار كل من نجيب محفوظ 1994 وحسني مبارك 1995 حتى اغتيال المغني الجزائري معطوب الوناس 1998، وتكونت لاحقاً نماذج مؤسساتية تحريضية سواء تكفيرية مثل لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية 1994(تحولت إلى حركة الإصلاح بعد انشقاق 1996) أو إرهابية في تفجيرات تناوبها كل من "حزب الله حجاز" أو "القاعدة" منذ 1995 أو حرب أهلية كالجزائر من جماعات إسلامية مسلحة عدة (1992-2002) أو احتسابية ضد الفضاء العام الثقافي في الفكر والشعر والسينما ولا زالت مستمرة. إذا أمكن تحقيب التاريخ المصري السياسي فترة القرن العشرين فيتاح لنا أن نرصد مرحلة التحرر المديني (أو الليبرالية المصرية) في عصر الأسرة العلوية(حكمت منذ 1808) 1916-1952، ومرحلة قومية اشتراكية (أو الناصرية) عصر الانقلاب العسكري (1954-1967)، ومرحلة انهيار الإيديولوجيا (أو تديين المجال العام) عصر الرأسمالية العسكرية (1970-2000)، ومرحلة ما بعد انهيار الإيديولوجيا (الاتجاه الفكري الجزئي) عصر المدنية الشعبية (2005- ...) الذي تعزز بفعل ثورة الربيع 2011. وبرغم وصول مرشح حزب الحرية والعدالة إلى رئاسة الجمهورية المصرية، وهو الرئيس محمد مرسي 24 يونيو 2012، فإن ظهور هذا الحزب يشكل نهاية للجماعة المحظورة كما اشتهر أو بعبارة أخرى انتهاء عصر"جماعة الإخوان المسلمين"-مع الأخذ بالاعتبار انعدام المشروع السياسي-، ودخول أفرادها بصورة عضوية ضمن دائرة "ما بعد الإيديولوجيا الإسلامية" نحو دائرة ما بعد الإسلاموية. فإذا عرفنا أن من أسباب فشل المشروع الإسلاموي في المنطقة العربية كلها: الخطاب التصادمي الذي يتدخل ببجاحة في الفضاء العام، والحلول والتبريرات الجاهزة بالدخول في متاهات أسئلة (ماذا ولماذا) لا سؤال التفكير والتأمل (كيف)، والمراهقة الاجتماعية والتفرد الانعزالي داخل المجتمع العربي(الإسكندراني، 2011،11-14). وهم الآن، برغم كل ما تعانيه جماعة الإخوان المسلمين من صراع الأجيال وانعدام المشروع والطابع الارتزاقي الماضوي غير أنها دخلت بحراً جديداً بعد ثورة الخامس والعشرين 2011. هذا البحر الجديد هو اتجاه فكري جزئي يهيمن على الفضاء الاجتماعي لكثير من التيارات السياسية الجديدة أو اللاحركات اجتماعية مثل: 6 إبريل أو كفاية يظهر فيها التصالح مع التدين ( لا الدين)، والحقوق الديمقراطية والعلمانية الجزئية، وفصل الخطاب السياسي عن الخطاب التديني (لا فصل المجتمع عن التدين) (الإسكندراني،2011، 27-31). وما يلحظه المحلل السياسي الإيراني آصف بيات بأن هناك محاولة لمصالحة المجتمع المسلم على المستقبل في سعي للحم التدين بالحقوق، والإيمان بالمسؤولية الاجتماعية، والإسلام كحالة تدينية بالحرية الفردية، وهو ما بدا يتجاوز المجتمعات العربية الإسلامية إلى مجتمعات ماليزية أو باكستانية أو إيرانية إسلامية، وهو ما لا يدخل فيه بعض المجتمعات الإسلامية المهاجرة إلى أوروبا أو أمريكا. السؤال الذي يطرح نفسه في كل ممارسات الجماعات الإسلامية ضمن تفكيرها الماضي الذي يصطدم في عصر ما بعد إسلاموي لا تمكنها "العدة الإيديولوجية القديمة" للتعامل مع مستجدات القرن الواحد والعشرين، وإذا توهمت أن وصول عضو منها إلى سدة الرئاسة يجعل منها الظفر بصيد الجمل، فإن الجمل المظفور به لم يعد إلا مجموعة من الغربان تقودها إلى ما قاد الأعراب حين يعميهم التطير وتستعبدهم أوهام زمن مفقود يستحيل القبض عليه ويقودهم إلى سراب جديد.