نضال الأشقر أقامت الفنانة الكبيرة "نضال الأشقر" والموسيقي العربي العالمي "سيمون شاهين" حفلا من الشعر والموسيقى في نادي خريجي جامعة هارفرد في نيويورك، برعاية مندوب لبنان الدائم لدى الاممالمتحدة السفير نواف سلام.
وفيم يلي نص الكلمة التي ألقاها سعادة السفير نواف سلام في حفل عشاء "مسرح المدينة" بنيويورك: نجتمع* اليوم حول مسرح المدينة. وفي هذه المناسبة اود ان اوجه تحية مثلثة: الى المدينة، بيروت، والدور الذي لعبته كعاصمة ثقافية وفكرية للعالم العربي. الى المسرح ومساهمته الهامة في جعل هذا الدور لبيروت ممكنا. والى رمز، الى نضال (الاشقر)، الرائدة من رواد المسرح في لبنان، مؤسسة "مسرح المدينة" ومديرته. السيدات والسادة، ان تاريخ المسرح في بيروت مرتبط بشكل وثيق بالنهضة العربية التي شهدها القرن التاسع عشر. وهي اللحظة التاريخية في بيروت التي تضاعفت فيها المدارس الحديثة، وانشئت المطابع ونشرت الكتب وتأسست الصحف وازدهرت نوادي القراءة والجمعيات الادبية وشيّدت جامعتان. والواقع انه في عام 1848- اي 18 سنة قبل ان تفتح ابوابها الكلية السورية الانجيلية (التي صارت لاحقا الجامعة الاميركية في بيروت)، و17 سنة قبل ان ينشر السوري فرنسيس مراش "غابة الحق" وهي اول رواية عربية حديثة، و27 سنة قبل صدور جريدة "الاهرام" المصرية- كان تاجر في بيروت يدعى مارون النقاش قد عرَّب مسرحية موليير "البخيل" وعرضها في منزله، ثم كتب مسرحية خصصها للخليفة العباسي هارون الرشيد. وفي عام 1853 حصل على ترخيص رسمي لافتتاح أول مسرح في موقع قرب منزله. سعت حركة النهضة العربية في القرن التاسع عشر،عبر الدعوات للاصلاح، الى التصدي للتحديات الثقافية والاجتماعية المتعددة للحداثة. وبفضل دورها المتنامي في النقاشات الفكرية التي رافقت ضخامة هذه التحديات، اكتسبت بيروت موقعها كعاصمة مشتركة مع القاهرة لهذه الثورة الفكرية في العالم العربي.
وفي القرن العشرين، استمرت بيروت في أداء ما اضحى رسالتها كمدينة للثقافة والادب، مدينة للفنون والافكار. وقد شهدت جدالات حادة حول عناوين الهوية بين الخيارات القومية المختلفة، ونقاشات ساخنة بين العلمانيين وخصومهم، ومناظرات ادبية بين التحديثيين والتقليديين، وصراعات ايديولوجية بين الليبيراليين والمحافظين، وبين اليسار واليمين بما في ذلك اقصى اليسار وغلاة اليمين. ولانها استطاعت ان تواصل توفير هذه المساحة الثمينة من الحرية، في وقت كانت الحرية تستهدف في سائر انحاء العالم العربي، صارت بيروت الوطن الثاني للكتّاب والصحافيين والفنانين العرب المضطهدين والهاربين من انظمة الاستبداد والقمع في اوطانهم الاولى. وكثيرون هم المثقفون العرب الذين نظموا المدائح في بيروت كواحة للحرية. فبيروت التي احبها احمد شوقي، ايضا جذبت ادونيس وادهشت بلند الحيدري وسلبت الجواهري وسحرت محمود درويش. وهؤلاء اعلام من الشعراء فقط. وكيف لا نذكر انه في بيروت نشر بدر شاكر السياب عام 1960 "انشودة المطر"، وانه في بيروت ايضا استطاع نجيب محفوظ ان يقفز فوق الرقابة المصرية وان ينشر عام 1959 روايته الممنوعة "اولاد حارتنا"؟ الا ان انفتاح بيروت قد تمت استباحته، ومناخ الحريات الذي وفرته قد تم الافراط في استخدامه، مما جعل الشاعر السوري الكبير نزار قباني يتوجه الى بيروت عام 1978 قائلا: نعترف أمام الله الواحد أنّا كنّا منكِ نغار وكان جمالكِ يؤذينا نعترف الآن بأنّا لم ننصفكِ.. ولم نعذركِ.. ولم نفهمكِ وأهديناكِ مكان الوردةِ سكّينا السيدات والسادة، مع هبوب رياح التغيير في العالم العربي، نجد انفسنا اليوم في مواجهة قضايا مصيرية عديدة كما في ايام النهضة. بعضها يتعلق بالقيم الاساسية مثل الحرية ومعنى الكرامة الانسانية. وبعضها الاخر يتعلق بالمجال السياسي مثل طبيعة الدولة والضمانات الدستورية. وغيرها ايضا يتعلق بالوعود غير المحققة للتنمية الاقتصادية والرعاية الاجتماعية. وفي مواجهة هذه التحديات القديمة الجديدة، فإن بيروت مدعوة اليوم كما في الامس لتكون على مستوى رسالتها كمدينة للثقافة، مدينة للفكر، مدينة للابداع. والواقع "ان المدن، كما يشير فيليب مانسيل ببراعة في كتابه "ليفانت"، هي طريق ثالث بين الدول والافراد، هي مختبرات لعوالم جديدة في الاقتصاد والثقافة والسياسة". والثقافة هنا مرتبطة بالمعنى وبالقيم وبالمعرفة وبالفن وبالادب، كما ان المقصود بالابداع هو القدرة على التفكير بطريقة مختلفة، على تحدي التقاليد، على تحفيز المخيلة، وعلى صوغ مفاهيم وافكار جديدة. صحيح ان المجتمعات تصنع الثقافة، لكن الثقافة بدورها ايضا تصنع الطرق التي يتفاعل بها الناس مع العالم المحيط بهم. وانطلاقا من طبيعة التحديات "الاخلاقية" و"الثقافية" المرتبطة باليقظة العربية الجديدة، فانه من المهم ان نسجل انه "منذ بداياته، كان المسرح منخرطا في النقاش حول تنازع النفس البشرية بين الخير والشر. لقد فضح الكذب والنفاق، الكبرياء والانانية، ودان العنف والجوع الى السلطة. فمن اسخيليوس الى شكسبيير وموليير وايبسن وتشيخوف وبريخت وبيكيت وصولا الى الكتّاب المعاصرين، حاولت الفنون الدرامية اختراق سر الوجود الانساني، وسعت الى بلوغ مفتاح الضمير والقلب من اجل حماية الحياة وكرامة الانسان". (يانوس وارمينسكي) وقيل بحق ايضا ان "المسرح قادر على ان يجعلنا نضحك ونبكي، لكنه قادر ايضا على ان يجعلنا نفكر ونتبصّر". (جودي دينش) السيدات والسادة، الثقافة ليست ترفا. الثقافة متلازمة مع الحياة. لذلك، فإن دعم الثقافة هو مساهمة في حياة افضل. والمسرح كما وُصف كثيرا هو "فعل حرية". لذلك، فإن دعم المسرح هو مساهمة في دوام الحرية. هذا ليس شعارا. فالمسرح هو بالتأكيد مرآة لأعراف المجتمع وتقاليده، لكنه يعبّر ايضا عن رغباته وطموحاته. وهكذا يمكن للمسرح ان يكون اداة لنقد المسلمات واختبار الممكن ومضاعفة الخيارات. الامثلة عديدة عن مساهمة اهل المسرح من على خشبات بيروت في نشر الوعي حول قضايا ملحّة واساسية مثل الاستبداد والقمع والاحتلال والتمييز الاجتماعي والحرمان الاقتصادي والتعصب والتهميش. لجميع هؤلاء نوجه تحية هنا. الا ان لا حدث في تاريخ المسرح اللبناني عبّر عن ذلك مثل "مجدلون". ففي عام 1968 عندما اقتحمت قوى الامن اللبنانية "مسرح بيروت" لوقف عرض "مجدلون"، وهي مسرحية نقدية لسياسة الحكومة في جنوب لبنان، توجّهت نضال الاشقر وزملاؤها الممثلون برفقة جمع من الحضور الى مقهى "الهورس شو" في شارع الحمراء حيث واصلوا العرض على الرصيف وطاولات المقهى. ولا يزال فعل التحدي الجريء هذا ضد الرقابة علامة فارقة في نضال الفنانين والمثقفين اللبنانيين لصون الحريات في المدينة، الحريات نفسها التي صارت مرادفة لروح بيروت. الان وفي الختام اود ان اتوجه لنضال بالقول: اليوم اكثر من اي يوم مضى، تحتاج المدينة الى رؤيتك كما الى شجاعتك. اليوم اكثر من اي يوم مضى، يحتاج المسرح الى موهبتك كما الى روح المبادرة عندك. واليوم اكثر من اي يوم مضى، فان العدد الكبير من معجبيك واصدقائك، من محبي الحرية والمؤمينن ببيروت، سيواصلون دعم الرسالة النبيلة ل "مسرح المدينة". شكرا نضال لانك شملتني بين اصدقاء "مسرح المدينة".