مسيرة شابها العديد من الانحرافات التي تجلى فيها الشعور بالاستبداد شيئًا فشيئًا، حتى أصبح يقينًا واقعيًّا أحس به كل ليبي حر يحب وطنه، منذ أن بدأ التوجه نحو حكم الأسرة القذافية الاستبدادي، وانفراد الطاغية بالحكم وإبعاده، بل وانتقامه، حتى من رفاقه المقربين منه، الذين عاونوه على الوصول إلى السلطة وإقامة ما سمي فيما بعد ب"ثورة الفاتح من سبتمبر". وفى هذا المقام، وقبل أن نتحدث عن أحداث الثورة الشعبية العارمة في 17 فبراير 2011م، لا بد لي أن أوضح بعض النقاط باعتباها مقدمة توضح علاقتي بالإدارة الليبية في عهد القذافي التي من خلالها أدركت يقينًا أن هناك خطة ممنهجة لتجهيل الشباب وتحويل الشعب إلى مجتمع حائر ضائع فاقد لهويته، مع رفع شعارات كاذبة بأن هذا الشعب هو السيد، وهو الذي بيده "السلطة والثروة والسلاح". البداية كانت فيما يسمى ب"أمانة الرياضة الجماهيرية" التي كلفت بها باقتراح من السيد عبد العاطي العبيدي والمرحوم السيد إبراهيم بكار، وعملت فيها لمدة سنتين، وبالتحديد عامي 1982 و1983م، وأعفيت في بداية فبراير 1984م، والسبب أني غير مؤمن بالرياضة الجماهيرية بالكتاب الأخضر، حسب ما قاله القذافي بنفسه، عندما سئل عن سبب تنحيتي خاصة أنى بذلت مجهودًا كبيرًا في تنظيم بطولة إفريقيا لكرة القدم عام 1982 ومهرجان الشباب الإفريقي الذي كان لي موقف بضرورة اشتراك المغرب وسحب وعدم قبول وفد الصحراء "البوليساريو"، وكذلك عدم إصدار قرار- تنفيذًا لتوجيهات القذافي- بتغيير أسماء الأندية والهروب من تنفيذ توجيهات عدم ذكر أسماء الرياضيين أثناء وصف المباريات في التليفزيون والراديو، وتنفيذه عن طريق وزارة الإعلام، كما أن الاهتمام بالأندية ودعمها كان من الأسباب الرئيسية لتنحيتي، وهنا وضعت يدي على أهم عقدة عند هذا الرجل، وهى أنه كان يعمل على أساس أنه النجم الوحيد ويجب ألا يكون هناك نجم غيره في ليبيا. والانطباع الثاني عندما كلفت بإدارة صندوق الضمان الاجتماعي، لا تتصوروا كم كان الأمر صعبًَا علينا أن نحافظ على أمواله من استغلالها في مشاريع وهمية بتدخلات سافرة من أعوان القذافي بالذات، والحمد لله نجحنا في ذلك في الفترة من 1984 إلى 1989 وآزرني في ذلك المرحوم إبراهيم الفقيه حسن، الذي كنت أتبعه وهو أمين الضمان الاجتماعي، وهنا وضعت يدي على الفساد المالي والتوجه العنصري الشللي والتوجه الإقليمي تجاه مشاريع التنمية والمشاريع الاستثمارية، وبلعبة غير أخلاقيه تم فيها اختيار جديد لأمانة الضمان الاجتماعي على أساس القرابة والمعرفة للقذافي، فتقدمت بطلب إعفائي من إدارة صندوق الضمان الاجتماعي، رغم إصرار بعض الأمناء القدامى على استمرار إدارتي للصندوق فتركته، ورجعت لمدينة بنغازي، وبقيت فيها، وكنت في بعض الأحيان أكلف بدراسة موضوع يخص إدارة العمل أو الضمان الاجتماعي أو الشئون الاجتماعية؛ ولكن لم يؤخذ بأي توصية تقدمت بها حتى عام 1993 حيث كلفت بهيئة القوى العاملة التي كانت تتبع أمانة التخطيط والمالية. وفى القوى العاملة علمت علم اليقين بأن النظام فعلاً يخطط لخلق جيل جاهل أو أنصاف متعلمين مع عدم الاهتمام بتشغيل الشباب، ورغم كل المحاولات، لم ينفذ ما قمنا بتقديمه من تقارير لرئيسنا المباشر الذي بدوره أحالها إلى الجهات المختصة التي تماطل فيها وتركنها في الأدراج، وكانت القشة التي قسمت ظهر البعير، عندما نسقنا في تشغيل 2000 شاب من الجبل الأخضر مع الشركات التركية العاملة في سرت، ونظمنا الأمر، وتم إجراء مقابلات واختيار 1000 شاب، وبدءوا العمل في معسكرات الشركات بسرت بمبلغ 250 دينارًا شهريًّا مع الإقامة والأكل وإجازة أسبوعين كل ثلاثة أشهر. ولكن فوجئنا بتقرير يقدم من الأمن إلى القذافي بأن القوى العاملة ورئيسها يساهمون في نشر الزندقة بسرت، فما كان من القذافي إلا أن أمر بتشكيل لجنة برئاسة خليفة حنيش وعضوية أحمد قذاف الدم وأحمد إبراهيم وحدث صراع مرير بيننا وبين هذه اللجنة؛ لأني لم أكن عسكريًّا ليحقق معي عسكريون كما أنني لم أكن مختارا من مؤتمر الشعب العام، بل كنت موظفًا معينًا طالبت رئيسي أن يحيل الموضوع للرقابة الإدارية أو النيابة العامة، وأنا والمسئولون معي مستعدون للمثول أمام هذه الجهات، ولم يتم الالتفات لطلبي ولم أمثل أمام اللجنة؛ وصدرت أوامر بإعادة الشباب، وتم وقف المشروع، رغم أني على يقين بأنه لم يكن من أحد من الشباب أي ميول أو انتماءات ضد الدولة في ذلك الوقت بشهادة الأمن الداخلي بالجبل الأخضر الذي أحضر لي بعد هذا الموضوع بشهر مدير مكتب القوى العاملة هناك رسالة منهم تفيد ذلك. من هنا بدأت التفكير الجدّي في ترك العمل مع هذه الثلة الفاسدة، وكانت فرصتي عندما عرض عليّ وزير العمل المصري الأسبق الأستاذ أحمد العماوى أن أرشّح نفسي لشغل منصب "الأمين العام لمنظمة العمل العربية" الذي كان من المقرر أن يشغر في مارس من عام 1999م، وبالتالي بدأت أجس نبض بعض الوزراء ورؤساء الاتحادات العمالية ورؤساء مجالس أصحاب الأعمال فوجدت- إلى حد ما- قبولاً مبدئيًّا أدى بي عند عودتي من مؤتمر العمل الدولي في شهر يونيو 1998م، أن أتقدم بطلبي إلى رئيسي المباشر بالسماح لي بالترشح لهذه الوظيفة، وفوجئت بالموافقة في اليوم نفسه، وبدأت في الإجراءات باستلام رسائل ترشح من "اللجنة الشعبية العامة" والخارجية واتحاد العمال واتحاد الغرف التجارية، وسافرت بنفسي للقاهرة ومكنني الوزير العماوي من تقديم أوراقي وأرسلتْ كل من مصر وتونس وقطر رسائل للجامعة العربية تؤيد ترشحي، وقد تقدم للترشح وكيل وزارة العمل البحريني وأجريت الانتخابات بالاقتراع السري شارك فيها وزراء العمل العرب ورؤساء اتحادات العمال العرب ورؤساء الغرف التجارية وكذلك رؤساء مجالس أصحاب الأعمال العرب، وبتوفيق من الله فزت بعدد 56 صوتًا وفي المقابل حصل المرشح البحريني على 24 صوتًا. ومنذ استلامي لعملي في المنظمة تقدمت بطلب للحكومة الليبية لإحالتي إلى التقاعد المبكر وتمت الموافقة، ومنذ 1999 انتهت علاقتي الرسمية بالإدارة الليبية، وانتهجت نهج النقد الموضوعي ومحاربة الفساد والدعوى لحقوق الإنسان في اللقاءات والندوات والكتابات حتى انتهت مهمتي في 2007 وعدت إلى مدينتي الحبيبة بنغازي، واستمررت في كتاباتي النقدية ضد تصرفات النظام، نشر العديد منها، وأصدرت أيضًا كتابي الثامن "نحن في عيون التاريخ" ثم كتاب "زمن اللخبطة" الذي منع من التداول في ليبيا، وتم بسببه توجيه تحذير لي. إلى أن كان يوم 17 فبراير الذي كانت لي معه روايات عديدة، ألخصها في الوقفات التالية: كان لي ارتباط مسبق مع منظمة الأسرة العربية بالشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة، بأن أكون المتحدث الأساسي في مؤتمرها التي نظم في الفترة من 17 إلى 21 فبراير بمدينة الشارقة، فسافرت إلى هناك يوم 13 فبراير على الخطوط الليبية بنغازي- دبي. ومنذ مساء يوم 15 فبراير، عندما خرج الشباب أمام مديرية الأمن كان ابني قويدر وابني سامح معهم ويمدونني بالأخبار أولاً بأول، واستمر الأمر إلى أن كانت الانتفاضة تزداد في 17 و18 و19 و20 فبراير، فقمت ببعث إيميلات لكل الذين أعرفهم من الليبيين في الخارج أحثهم على الوقوف مع الثورة وسأترك لهم الحديث عن ذلك؛ لأن منهم من كانت مساهماته إيجابية بعد اتصالي به ودخلوا المكتب التنفيذي فيما بعد، المهم بدأت في حملتي الإعلامية منذ يوم 19 فبراير في الجزيرة والعربية وال"إن بي إن" اللبنانية، وباتصالات مع رئيس منظمة الأسرة العربية تحصلنا على أول قرار من رئيس دولة الإمارات موجّه إلى الهلال الأحمر الإماراتي يوم 20 فبراير بالاستعداد لتكوين فريق عمل لمد ثوار ليبيا بكل المساعدات، واستطعنا إفشال مجموعة من المحاولات لمد كتائب القذافي بسيارات ذاتية الحركة، وكان أبنائي يوصلون لي البيانات من ميدان التحرير امام مقر محكمة بنغازي. وبإيجاز سخرت كل إمكانياتي ومعارفي على المستوى العربي والدولي لخدمة ثورتنا المباركة، فقمت بإجراء اتصالات مع مجموعة من رجال الأعمال الأمريكان، منهم 3 سناتور، في الحزب الديمقراطي، وكنت على تواصل معهم بالنت لشرح اتهامات إعلام القذافي المضللة وفنّدت لهم كل الادعاءات الخاصة بالقاعدة وتواجدها في شرق ليبيا، يالإضافة إلى غيرها من الادعاءات، وكان لهؤلاء دور كبير في شرح الأمور للخارجية الأمريكية والبيت الأبيض. وكذلك كثفت اتصالاتي بالأمانة العامة للجامعة العربية قبل عرض الموضوع على مجلس الجامعة، وليلة عرض الموضوع قلت في لقاء لليبيين بأن الجامعة غدًا ستأخذ قرارًا تنحاز فيه لثورتكم المباركة، وكان لتعاون الأستاذ الصديق عمرو موسى أثر كبير بدون شك، ولكنى أقول هنا نقطة مهمة: "إن القذافي وأولاده كانوا يعبثون بمقدرات ليبيا ويسخرونها لأفعالهم الدنيئة غير المشروعة، ما جعل معظم دول العالم الحر تتحسس الوقت الذي تعمل فيه على إنهاء حكم هذا الطاغية العالمي وأولاده، والقضاء على هذه العصابة الدولية، وبالتالي فكانت ثورة شعب ليبيا العظيم هي الأساس في التفاف الجميع مع ليبيا ودعمها، وليس لأحد منا أي فضل في الاعترافات أو مواقف المنظمات العربية والدولية إلا ثورة الشعب العظيم، ولو كان المتصل غيرنا من الليبيين لحقق النتائج نفسها". عموما الذكريات النضالية كثيرة ومتعددة، وكم كانت وحدة الصف الليبي رائعة، وكم كان إصرار شبابنا على إنهاء حكم الطاغية وأعوانه بقوة السلاح عندما استخدم القوة المفرطة ضد الشعب الليبي العظيم، كل هذا تاريخ لا ينسى، وأصبحت مُدننا وقرانا يعرفها كل إنسان على وجه البسيطة، ويضرب بها المثل، وأصبح علمنا الشامخ دائمًا بإذن الله أشهر الإعلام، وأصبح نشيدنا الوطني يتغنى به الأطفال والشباب والنساء والرجال في كل مكان، كان كل شيء رائعًا وجميلاً ويشكل ملحمة تاريخيه عظيمة بحق سيسطر لها المؤرخون ويفردون لها موقعًا لائقًا في تاريخ كفاح الشعوب ضد جلاديها. واليوم ونحن نحتفل بالذكرى الأولى لثورة الحرية وانتصار الإرادة الحرة للشعب الليبي العظيم أدعو الحكومة الليبية إلى عدم الوقوع في نفس الأخطاء، خاصة مركزية الإجراءات التي ستكون مقبرة لكل من تسول له نفسه أن يهمش قرية صغيرة في ليبيا، لأن الشعب الليبي ثار ضد المركزية، وعليه فإني أنبه وأحذر من الذين يشكلون الآن ميلشيات تدعى أنها ثورية وتقوم بفعل مضاد وتحرس أزلام النظام وأصحاب الأموال المعاونين لهم. ومن المفيد جدًّا أن نعي أنه من الأهمية بمكان أن نهتم بناسنا في سرت وبني وليد، وكل المناطق التي كانت محسوبة على الطاغية ونظامه، ونرعاهم ونلطف ما يدور في خلدهم ونكشف الحقائق أمامهم ليتجاوزا ما يشعرون به الآن من أنهم منبوذون بعد الثورة العظيمة، وعلينا أن نحل مشاكل النازحين ونعجل بالقصاص لكل من خان الشعب وقتل أبناءنا واغتصب فتياتنا ونساءنا وسرق أموالنا، بدءًا من سيف القذافي إلى كل الأعوان والمساعدين لنستطيع بعد ذلك أن نحقق مصالحة وطنية حقيقية تدوم معنا، ونتجاوز بها هذه المرحلة لنبني ليبيا الأمجاد، ليبيا الحرية والكرامة لكل الليبيين والليبيات، وكل عام أنتم بخير، والله أكبر. [email protected]