ترددت كثيراً قبل أن أكتب، لكننى قررت أن أفعل لأنه ليس عيباً أن تغنى الشعوب بل على العكس فالكلمة هى الأصل فى التواصل بين الناس حاكم ومحكوم ، هى الحبل السرى الذى يربط القلوب ويؤلف بينها، وهى التى تروّج للزعامات، وتفجر الثورات فى الضمائر ، وتنقل خميرة العقل، هى المداد الذى يكتب التاريخ، وهى لصيقة الإنسان منذ ميلاده وهدهدته الأولى وحتى مماته. والأغنية ليست فعلاً معيباً أو مجرماً، ولكل هذه الأسباب السابقة كان لابد أن ننبه لهذه الظاهرة التى أصبحت تحتاج بالفعل إلى دراسة جادة بعيدة عن السخرية حتى لو أغرت بها. والظاهرة التى أقصدها هى أن يتحول شعبان عبد الرحيم إلى عنوان للمرحلة ، حتى ولو كان بالفعل يمثل ذلك ؛ فلابد أن نرفض ونقاوم هذا التدنى ، لكن الحادث أن السياسيين وأجهزة الدولة الرسمية وأخيراً الحزب الوطني، كل هؤلاء استعانوا بحنجرة وكلمات وألحان شعبان لينقلوا من خلالها رسائلهم للشعب المصري. فقط نذكركم أن هذا حدث مع الوزير يوسف بطرس غالى عندما استعان به فى حملته الإنتخابية منذ 4 سنوات، وبعدما استعانت به الحكومة لنقل رسائلها التثقيفية عن أنفلونزا الطيور، والآن يستعين به الحزب الوطنى للترويج لمؤتمره من خلال أغنية تعكس فجاجتها ومباشرتها التردى الثقافى وانعدام الذوق العام الذى نشتكيه جميعاً، ويتجلى فى كل ما يحيط بنا بداية من لغة الحوار، وحتى اختلاط المعايير وأقدار الناس وامتهان الكفاءات وضعف الخدمات، وغلبة الإنجاز الكمى على الكيفى حتى باتت الإنجازات مجرد أرقام أو إنجازات "ديجيتال". وهنا لابد أن نستدعى مقارنة ما بين مرحلة المد القومى وصعود الحلم المصرى فى النصف الثانى من الخمسينيات والستينيات، وبين ما نعيشه الآن، بين الصدق الذى اكتنف هذه المرحلة والكذب الذى نتنفسه جميعاً الآن ، بين مطرب مثل عبد الحليم حافظ يكتب له شاعر مثل صلاح جاهين كلمات يلحنها كمال الطويل ، فيتلقى الشعب عملاً عبقرياً يعبر بصدق عن أحلامه ويغزو من أقصر الطرق عقله قبل قلبه ، وحتى عندما وقعت النكسة فى عام 1967، صدق الناس أن الهزيمة سببها المؤامرة والخيانة عندما غنى عبد الحليم "عدى النهار والمغربية جاية تتخفى ورا ضهر الشجر.. وعشان نتوه فى السكة شالت من ليالينا القمر". لم تكن هذه مجرد كلمات ولكنها منشور سياسى أجج المشاعر وحرّض على مقاومة الهزيمة والانكسار. .. وعدى النهار وألف نهار بعده وجاء صوت التغيير ينعق كالبوم "من أجلك أنت وانتى عملنا مؤتمر.. عشان نخلى بلدنا تكون زى القمر" .. وأكاد اسمع بعد المقطع الأخير صوت جماهير الحزب المحتشدة فى نشوتها السياسية تهتف خلف السلاح السرى للتغيير : "إييييه".. ألم أقل لكم أن المسألة مغرية بالسخرية ؟!