مسألة العقل والنقل دار فيها حديث طويل، ونقاش امتد قرونا متطاولة. ومما يتهم به المسلمون والإسلاميون خاصة أنهم يعتمدون على النقل بدلا من العقل. ويتم طرح الأمر دائما من كأن العقل والنقل فى تعارض دائم، ولا بد لنا من طرح أحدهما إذا أردنا أن نأخذ بالآخر، من أن الأمر ليس كذلك. بداية لا بد أن نقر أن النقل ضرورة لا مفر منها، فى الإسلام وغيره من الملل والعقائد، كما هو الحال فى كل فكر وعقيدة ومبدأ. بل إن النقل هو أساس تقدم البشرية وعماد الحضارة. فلولا النقل ما تراكمت الخبرات والعلوم والأفكار. وإذا كان المسلمون قد اعتمدوا النقل وسيلة فى الحفاظ على العقيدة والشريعة غضة ندية، كما نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم، فقد اعتمد غيرهم كذلك على النقل فى بيان أصول عقائدهم وأفكارهم. فلا تجد مدرسة فكرية أو سياسية إلا نقل الخلف فيها عن السلف، واللاحق عن السابق. ولن تناقش يساريا لا يقول لك قال ماركس أو قال لنين، ولن تجادل مسيحيا لا يقول لك قال المسيح وقال بولس وقال البابا أو الجمع الكنسي، ولن تجادل صاحب فكر إلا قال لك قال فلان أو فلان. فهذا أمر طبيعى لا يعيب أحدا ولا ينقص من قدر الفكر. فلماذا نحاول (أو يحاول البعض) هدم السابق لإقامة بناء جديد. ألا يمكن البناء على ماسبق، أم يجب على كل جيل أن يخترع العجلة ويكتشف النار؟ ويظل السؤال هل العقل والنقل نقيضان لا يجتمعان أم هما أساسان يقوم الفكر عليهما جميعاً؟ إننى أراهما حدان للطريق السوى الذى يجب أن تسير عليه البشرية لكى تستقيم لها الحياة. فبأحدهما وحده لا يستقيم السير، ولا يهتدى السائر. فالعقل وحده لا يهدى دائما إلى الصواب فى كل الأحوال. والنص لا يعمل وحده دون عقل. والنقل فى الفكر الإسلامى يعتمد على نص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم. فهذه الدرجة الأعلى من النقل الواجب الاتباع، ثم تأتى روايات ما اختلف فيه الصحابة، ثم أقوال التابعين وأتباع التابعين، ثم أقوال العلماء والفقهاء، وما اتفق عليه الجميع أو الجمهور، وما اختلفوا فيه. فدرجات الإلزام فى ما نقل عن السلف متفاوتة وليس كل ما نقل ملزم وواجب الاتباع. ولم يكن اختلافهم واتفاقهم إلا ثمرة العقل ونتاجه. فالعقل لازم لفهم النص وإعماله، واستخراج القواعد الأساسية منه، وتنزيل الحكم على الوقائع. وبغير العقل لا يمكن فعل شيء من ذلك. ولكن النقل كذلك لازم لقطع الخلاف فيما لا يجوز فيه خلاف، وما لا يستقيم الأمر إلا به. سواء فى العقيدة أو التشريع. ففى شأن العقائد، يظل العقل حاكما فى الإيمان بالله، والإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن القرآن منزل. وبهذا نصدق ما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم- بالنقل وحده - وإن لم نملك دليلا من العقل. فنحن نؤمن بالملائكة، وليس لدينا دليل عليهم إلا قول الله ورسوله، ونؤمن بنبوة موسى وعيسى وإبراهيم، وليس لدينا دليل على وجودهم أصلاً إلا من الكتاب والسنة. ولنا فى أبى بكر الصديق قدوة حسنة، عندما أبلغوه بحادث الإسراء فقال "إن قالها فقد صدق". فليس لمسلم أن يكذب ما صح فى القرآن أو السنة من العقائد، لأنه لم يعقلها. وفى أمر التشريع مثلا حدد الله تعالى لنا العبادات بأقدارها وأوقاتها فليس للعقل أن يزيد فيها أن ينقص، فهى ليست من عمل العقل، وإلا فلماذا نصلى الظهر أربعا والمغرب ثلاثا؟ لماذا نمسح ظاهر الخف وليس باطنه؟ بل ما جدوى التيمم؟ وكذلك لماذا حرم الله الذهب والحرير على الرجال دون النساء؟ هذه الأمور نقول فيها كما أمرنا الله تعالى سمعنا وأطعنا سبحانك ربنا وإليك المصير. ولا بأس بعد ذلك أن نفكر فى حكمة الله فى تحريمه وفرضه، ولكن العقل هنا إن وصل زادنا إيماننا، وإن وقف دون فهم الحكمة لم يمنعنا ذلك من الطاعة لله والنزول على حكمه. أما فى شؤون الدنيا وأعمالها، فقد أمرنا الله تعالى بالعدل، وترك لنا أن نحدد الآلية والأداة التى نحقق بها العدل. وأمرنا بالشورى ولم يحدد نظاما لاختيار الحاكم أو محاسبته أو عزله، وترك ذلك للناس على تباين أحوالهم وتفاوت ظروفهم وعقولهم. وأمرنا بالشورى وأمرنا أن نطيع أولى الأمر. فكيف نفعل ذلك؟ أمرنا أن نعد لهم ما استطعنا من قوة ومن رباط الخيل، فكيف ذلك؟ هذه مسائل تركها الله لعقولنا. والخطأ يقع عندما نضع هذا محل ذاك. فنعمل العقل فيما يجب التسليم فيه، أو نتبع النقل فى ما أصله التجديد والاتباع.