نبهني بعض أصدقائي لكلمة نشرت في أهرام الخميس الماضي لأستاذ في إحدي الجامعات السورية يعقب فيها علي مقال لي نشرته الأهرام في الرابع من أغسطس الماضي بعنوان نحن في حاجة إلي فقه جديد, فسارعت لقراءتها متوقعا أن يكون صاحب التعقيب اسما أعرفه, أو أن أجد في تعقيبه ما يستحق النشر في الأهرام, لكني لم أجد شيئا مما توقعت, ولم أنجح في فهم المراد مما جاء في هذا التعقيب العجيب! لقد أردت في المقال الذي عقب عليه الأستاذ أن أشرح الأسباب التي تفرض علينا أن نجتهد في الوصول إلي فقه جديد نتحرر به من قيود التقليد, ونجد فيه جوابا علي أسئلة العصر يتيح لنا أن نعيش فيه ونشارك في بنائه مشاركة إيجابية, دون أن نتنكر لأصولنا, أو ننقطع عن ماضينا. وهكذا كان عنوان مقالتي نحن في حاجة إلي فقه جديد. ويبدو أن صاحب التوقيع د. محمد محمود سعيد رئيس قسم القانون الجزائي بجامعة حلب له في هذه المسألة موقف آخر لم يعبر عنه بصراحة في عنوان التعقيب الذي وضعه في صيغة الاستفهام هل نحن في حاجة إلي فقه جديد؟. كأن هذه الحاجة ليست واضحة, وليست محل اتفاق, وكأنها مازالت سؤالا مطروحا إن استطعت أن أجيب عنه بالإيجاب, فباستطاعة غيري أن يجيب بالسلب فيقول: لا. لسنا في حاجة إلي فقه جديد, والفقه القديم فيه الكفاية! ولاشك أن لهذا السيد الحق الكامل في نفي الحاجة للتجديد, وفي طرح السؤال عنها من جديد. لكن المدهش في الأمر أنه سأل ولم يجب, ولم يقدم أسبابا من ناحيته ينفي بها الحاجة إلي الفقه الجديد. ولم يناقش الأسباب التي قدمتها, وإنما انصرف إلي عبارات استلها من مقالي, واتخذها ذريعة لاستظهار ما يعرفه عن المعتزلة, واللغة العربية, ولهجاتها, وأخواتها من اللغات السامية الشمالية والجنوبية, وعن حكماء الهند كما تحدث عنهم البيروني, وعن أنبا دوقليس وفلاسفة اليونان كما تحدث عنهم الشهرستاني. كأن تراث هؤلاء الفلاسفة لايزال مجهولا, وكأنه لم يحقق ولم يترجم ولم يطبع, وكأن كتاب لملل والنحل الذي ألفه الشهرستاني في القرن الثاني عشر الميلادي لايزال مرجعنا الوحيد في الفلسفة اليونانية.. وهكذا يواصل هذا السيد استعراضاته حتي يصل إلي ما يقوله المعتزلة في خلق القرآن فيخلط في هذه المسألة خلطا ذريعا إلي أن ينتهي دون أن يوضح رأيا أو يجيب عن سؤال. *** وكنت في المقال الذي عقب عليه هذا السيد قد تطرقت للحديث عن المعتزلة, لأن الحديث عن حاجتنا إلي تجديد الفكر الديني يستدعي الحديث عن المعتزلة الذين سبقوا إلي تجديد هذا الفكر بإثبات حقهم في النقد والمراجعة, وإيمانهم بأن الإنسان كائن عاقل حر مسئول, وأنه خالق أفعاله, وأن العقل البشري قادر علي معرفة الحق وعلي التمييز بين الخير والشر وبين الصواب والخطأ. فمن حقنا أن نحتكم إليه في فهم النصوص الدينية. لأن النص تتعدد معانيه بتعدد قرائه واختلاف بيئاتهم وأزمنتهم. والنص قد يتعارض مع النص, والمعني مع المعني, فلابد من التأويل, أي تقليب الكلام علي وجوهه المختلفة لاكتشاف ما خفي من دلالاته التي تتكشف مع مرور الزمن, ومع ظهور حاجات جديدة تضيء لنا ما كان خافيا عنا. ونحن نعرف أن التيار العقلاني الذي جسده المعتزلة في الفكر العربي الإسلامي تراجع قرونا طويلة, ولم ينهض من جديد إلا في العصر الحديث علي يد محمد عبده وبعض تلاميذه, وهانحن نري كيف انهزم العقل المصري والعربي في العقود الأخيرة واستسلم لدعاة التقليد والنقل والخرافة والعنف والتطرف. وإذن فنحن في حاجة إلي فقه جديد يستعيد به العقل حضوره وفعله. وفي هذا السياق أشرت لفكر المعتزلة, وتحدثت عن إيمانهم بالحرية, فقلت ضمن ما قلت إن المعتزلة رأوا أن الإنسان مسئول عما يفعل, وأن مسئوليته تقتضي أن يكون حرا في اختيار طريقه, وإلا فمحاسبته علي ما لم يكن له فيه خيار ظلم يتنزه عنه الحكم العدل. وقد عقب المعقب علي ما قلته فرأي أني جعلت من المعلول علة ومن العلة معلولا, ولعله اراد أن يقول إنني بدأت من حرية الإنسان وجعلتها شرطا لعدالة الجزاء. وكان يجب في رأيه أن أبدأ من العدل الإلهي الذي يقتضي أن يكون الإنسان حرا ليكون مسئولا عن أفعاله. والحقيقة أن هذه سفسطة سلفية, لأن المعتزلة لم يكونوا موضوعي الأصلي, ولم أكن أشرح مسألة من مسائل العقيدة, وإنما كنت أوضح موقف المعتزلة من مسألة الحرية, ولهذا بدأت منها, ثم إني لم أجعل حرية الإنسان شرطا يقتضي أن يكون الله عادلا, وإنما قلت إن مسئولية الإنسان عن أعماله تقتضي أن يكون الإنسان حرا, والإنسان الحر يخلق أفعاله لكنه لم يخلق نفسه, وإنما خلقه الله عاقلا حرا مسئولا, فإذا كان صاحب التعقيب قد فهم كلامي علي النحو الذي ذكره فقد أساء الفهم وجعل نفسه حكما وهو ليس بحكم. انظر مثلا كيف يقارن بين المعتزلة, وأصحاب الديانات القديمة في موقف هؤلاء وهؤلاء من مسألة الذات والصفات فيكشف عن عدم معرفته بهؤلاء وهؤلاء. ونحن نعرف أن مسألة الذات والصفات طرحت عند المعتزلة الذين أرادوا أن ينزهوا الله تعالي عن كل ما يتعارض مع وحدانيته. ومن هنا وقفوا أمام مسألة الذات والصفات. فالذات الإلهية واحدة, لكن صفات الله كثيرة, فإذا تصورنا أن الصفات كالعلم, والحياة, والقدرة غير الذات وقعنا في الشرك, ولهذا قالوا إن الصفات هي عين الذات, والله حي, عالم, قادر بذاته, لا بعلم وحياة وقدرة مضافة أو زائدة. ومن المفهوم أن هذه المسألة التي واجهت المعتزلة لم تواجه أصحاب الديانات القديمة الذين لم يعرفوا التوحيد, وإنما عرفوا تعدد الآلهة, وجعلوا لكل إله صفة, أو لكل صفة إلها, فللحرب إله, وللحب إله, وللفن إله! وكما أخطأ هذا السيد في حديثه عن الذات والصفات أخطأ في حديثه عن خلق القرآن, إذ خلط بين تعدد اللهجات وبالتالي تعدد القراءات من جهة, وبين اختلاف المصاحف التي حملها الصحابة معهم إلي الأمصار المختلفة من ناحية أخري, والأمثلة موجودة في المؤلفات التي تعرضت لتاريخ القرآن الكريم, فليرجع لها من طلب العلم, وذو العقل يشقي.. إلي آخره!