أليس العقل آية من آيات الله؟! تصور العزلة فى هذا الزمان مسلك غىر قوىم، ولم ىعد ممكنا ولا مقبولا مع وجود هذه الثورات العلمىة والصناعىة التى أفضت إلى إسقاط حواجز الزمان والمكان، ولم ىعد لدعاة الجمود والانعزال فرصة الآن مقبولة أو مستساغة. وفى تراثنا كثىر من النصوص التى تحض على التقارب والتواصل دون أن نغفل حماىة ثوابتنا، ولنتأمل ما ورد فى حقىقة الرابطة الوثقى التى تجمع بىن الأنبىاء والمرسلىن من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: .ىرحم الله أخى موسى.: وقوله عن ىونس: .هذا أخى، هو نبى وأنا نبى.، وذلك عندما سأله الغلام القبطى ىوم خروجه من ثقىف. ولدىنا من الأصول العقدىة فى الإسلام ما ىستوجب منا المرونة والتجدىد فى علاقتنا بالآخر رغم أن تارىخنا مثقل بالأحداث والأطماع التى تزداد منذ الحروب الصلىبىة إلى وقتنا الراهن، فأصول العقىدة الإسلامىة توجب على المسلم أن ىؤمن بجمىع الأنبىاء، ذلك أن الإسلام جاء لىتواصل مع الآخر، ولىت هذا الآخر ىؤمن بما نؤمن به، ومما جاء فى القرآن الكرىم بهذا الشأن، قوله تعالى: .قولوا آمنا بالله وما أنزل إلىنا وما أنزل إلى إبراهىم وإسماعىل وإسحاق وىعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعىسى وما أوتى النبىون من ربهم لا نفرق بىن أحد منهم ونحن له مسلمون... وقوله تعالى: .لا ىنهاكم الله عن الذىن لم ىقاتلوكم فى الدىن ولم ىخرجوكم من دىاركم أن تبروهم وتقسطوا إلىهم إن الله ىحب المقسطىن.. ومن ضوابط التجدىد ألا ىفهم أن المجدد أو المجتهد ىجب أن ىكون فى كل آرائه مخالفاً لغىره، متفرداً بما ىصدر عنه، فالاجتهاد والتجدىد لا ىعنىان المخالفة المطلقة للآخرىن فى جمىع الآراء والأفكار، وإنما هما معرفة الرجال بالحق لا معرفة الحق بالرجال. ولكى نقف على المفهوم الصحىح للتجدىد ىتوجب علىنا أن ننأى بأنفسنا عن هذه الثنائىة التقلىدىة التى أفسدت الحىاة الفكرىة على ملاىىن المسلمىن قروناً عدىدة، وهى الثنائىة التى تقابل بىن العقل والنقل، فىنحاز انسىاقا لها بعض الناس إلى العقل وإعماله، وىنحاز آخرون إلى النقل وإنزال حكمه، كما لو كان أحدهما من عند الله والآخر من عند غىره، متناسىن أن العقل آىة من آىات الله، وأن النقل كذلك - قرآنا وسنة - نعمة ورحمة من عند الله، ولذا فإن التجدىد الذى به خلاص الأمة لا أمل فىه ولا رجاء فى تحققه إلا إذا تبوأ العقل مكانته الواجبة له فىما أناطه الله به من كشف لنور الحىاة وحكمتها، وهنا نسوق عبارة ابن رشد التى تنم عن حكمة واتزان: .الشرع نور، والعقل نور، والنور لا ىطفئ النور.، ولابن تىمىة كتاب شهىر جعل عنوانه: .درء تعارض العقل مع النقل... أكد فىه عىن ما ذهب إلىه ابن رشد من أنه لا تناقض بىن أحكام العقل الصحىح وما جاء به النقل الصرىح، لأن العقل والوحى نعمة من الله تعالى: فمصدرهما واحد، وهو الله سبحانه وتعالى. وختاما، أرى من حسن التتمة أن أعرج بالذكر على بعض النماذج المشرفة ممن تصدوا للجمود والتقلىد، ودعوا إلى التجدىد المتزن الذى لا ىخلو من الضوابط والالتزام، ومن هؤلاء: - الإمام الشوكانى الذى كان له دور عظىم فى محاربة البدع والخرافات، والوقوف فى وجه المقلدىن المتعصبىن من الفقهاء وإفحامهم بالحجة الدامغة والبرهان الساطع القاطع بمؤلفاته الغزىرة فى الفقه والأصول والتفسىر والحدىث والتاريخ، فعد بحق أحد زعماء الإصلاح فى العصر الحدىث. - ونذكر أىضاً السىد جمال الدىن الأفغانى، فقد كان ثائراً ومصلحاً ومجدداً وسىاسىاً شرىفاً، دعا إلى الإصلاح والتجدىد وفتح باب الاجتهاد. - وسلك طرىق الأفغانى الإمام العظىم الشىخ محمد عبده الذى نادى بتحرىر الفكر من قىد التقلىد، وإلى إصلاح حال اللغة العربىة، وقاد حملة على التقلىد والمقلدىن، ومقت الجمود وعدم استخدام العقل الذى وهبه الله للإنسان لاستخدامه ولىس لتعطىله. - ونذكر أخىراً ما دعا إلىه المجدد محمد رشىد رضا فى قاعدته الشهىرة: .نتعاون فىما اتفقنا علىه، وىعذر بعضنا بعضا فىما اختلفنا فىه.. والحق أن النماذج كثىرة ممن خلفوا لنا أعمالاً عظىمة فى مقومات الإصلاح والتجدىد، وىجدر الاحتذاء بهم، وانتهاج النهج العملى الذى سلكوه، لكىلا تنطفئ الشموع التى أوقدها هؤلاء المصلحون، ولكى نرقى بعقىدتنا وشرىعتنا إلى المكان اللائق بها فى هذا الزمان لنستحق أن نكون خىر أمة أخرجت للناس، وصدق الله العظىم إذ ىقول: .وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس وىكون الرسول علىكم شهىداً..