لقد طرأت علي عالمنا المعاصر متغيرات كثيرة وتطورات عديدة في مختلف المجالات كان لها آثار بعيدة المدي في العلاقات بين الأمم والشعوب والحضارات والأديان. وحدثت في بداية الألفية الجديدة أحداث جسام كان لها انعكاسات سلبية علي صورة الإسلام والمسلمين في العالم. فقد تعرض الإسلام والمسلمون في السنوات الأخيرة لحملة ظالمة من الافتراءات والمزاعم التي أرادت أن تلصق بالإسلام- ظلما وعدوانا- تهم التعصب والإرهاب وترويع الآمنين ورفض الآخر. وغير ذلك من دعاوي لا أصل لها في الإسلام ولاسند لها من العلم ولا من الواقع التاريخي. فالحضارة الإسلامية التي انطلقت من تعاليم الإسلام منذ أربعة عشر قرنا من الزمان قد ضربت أروع الآمثلة في التسامح والتعايش الإيجابي بين الأمم والشعوب من مختلف الحضارات والثقافات والأديان والأجناس. ولا تزال هذه التعاليم الإسلامية حية وقادرة علي صقل عقل الأمة وتوجيه سلوكها وتعاملها مع كل البشر في كل زمان ومكان. ومن هنا فإن الأمر يحتاج منا نحن المسلمين إلي وقفة نواجه بها هذه الحملة الظالمة بأسلوب علمي يتوخي عرض الصورة الحقيقية للإسلام. لنزيل من خلالها ما علق بالأذهان زورا وبهتانا من أحكام مسبقة ومفاهيم مغلوطة وأفكار خاطئة. وفي الكلمات التالية نحاول إلقاء نظرة موضوعية علي قضية"التسامح في الإسلام" لانقصد من ورائها أن نشغل أنفسنا بالرد علي الدعايات الإعلامية المغرضة ضد الإسلام والمسلمين. وإنما نريد أن نقرر بعض الحقائق الأساسية في الإسلام ونذكر بما قد يكون غائباً في هذا الصدد عن الأذهان ونبرز قيم الإسلام وتعاليمه التي يمثل التسامح فيها مكان الصدارة. ليس علي المستوي النظري فحسب وإنما علي مستوي التطبيق العملي الذي يشهد به التاريخ. الإسلام بطبيعته دين عالمي يتجه برسالته إلي البشرية كلها تلك الرسالة التي تأمر بالعدل وتنهي عن الظلم. وترسي دعائم السلام في الأرض وتدعو إلي التعايش الإيجابي بين البشر جميعا في جو من الإخاء والتسامح بين كل الناس بصرف النظر عن أجناسهم وألوانهم ومعتقداتهم. فالجميع ينحدرون من "نفس واحدة". وعالمنا اليوم في أشد الحاجة إلي التسامح الفعال والتعايش الإيجابي بين الناس أكثر من أي وقت مضي نظرا لأن التقارب بين الثقافات والتفاعل بين الحضارات يزداد يوما بعد يوم بفضل ثورة المعلومات والاتصالات. والثورة التكنولوجية التي أزالت الحواجز الزمانية والمكانية بين الأمم والشعوب حتي أصبح الجميع يعيشون في قرية كونية كبيرة. والإسلام دين يسعي من خلال مبادئه وتعاليمه إلي تربية أتباعه علي التسامح إزاء كل الأديان والثقافات. فقد جعل الله الناس جمعيا خلفاء في الأرض التي نعيش فوقها وجعلهم شركاء في المسئولية عنها. ومسئولين عن عمارتها ماديا ومعنويا- كما يقول القرآن الكريم:"هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها" "هود: 61" أي طلب منكم عمارتها وصنع الحضارة فيها. ومن أجل ذلك ميز الله الإنسان بالعقل وسلحه بالعلم حتي يكون قادراً علي أداء مهمته وتحمل مسئولياته في هذه الحياة. ولهذا يوجه القرآن الكريم خطابه إلي العقل الإنساني الذي يعد أجل نعمة أنعم الله بها علي الإنسان. ومن هنا فإن علي الإنسان أن يستخدم عقله الاستخدام الأمثل. وفي الوقت نفسه يطلب القرآن من الإنسان أن يمارس حريته التي منحها الله له والتي هي شرط ضروري لتحمل المسئولية. فالله سبحانه لا يرضي لعباده الطاعة الآلية التي تجعل الإنسان عاجزا عن العمل الحر المسئول فعلي الإنسان إذن أن يحرص علي حريته وألا يبددها فيما يعود عليه وعلي الآخرين بالضرر. ومن شأن الممارسة المسئولة للحرية أن تجعل المرء علي وعي بضرورة إتاحة الفرصة أمام الآخرين لممارسة حريتهم أيضا لأن لهم نفس الحق الذي يطلبه الإنسان لنفسه. وهذا يعني أن العلاقة الإنسانية بين أفراد البشر هي علاقة موجودات حرة يتنازل كل منهم عن قدرة من حريته في سبيل قيام مجتمع إنساني يحقق الخير للجميع. وهذا يعني بعبارة أخري أن هذا المجتمع الإنساني المنشود لن يتحقق علي النحو الصحيح إلا إذا ساد التسامح بين أفراده بمعني أن يحب كل فرد فيه للآخرين ما يحب لنفسه. ولاشك في زن وعينا بأننا خطاءون يواكبه في الوقت ذاته وعينا بمسئوليتنا التي ترتكز عليه كرامتنا الإنسانية. الأمر الذي يمكننا من السلوك القويم المتسامح حيال الآخرين الين يشاركوننا في الإنسانية والذين ينبغي أن يربطنا بهم رباط التضامن الإنساني المشترك. والتسامح- كما ألمحنا- يقوم علي الاعتراف بحرية وكرامة كل إنسان. ونحن مطالبون أخلاقيا ودينيا أن نكون متسامحين من كل البشر. بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية والثقافية والدينية والإيديولوجية. ولا يكتفي الإسلام بتعليم أتباعه هذا التسامح الشامل بوصفه شرطا من شروط السلام الضروري للمجتمع الإنساني بل يطلب منهم أيضا الالتزام بالسلوك العادل الذي لايقبل بالآخر فحسب بل يحترم ثقافته وعقيدته وخصوصياته الحضارية. وخير وصف يمكن أن نطلقه علي هذا التسامح أنه تسامح إيجابي وليس تسامحا حيادياً. وفي هذا يقول القرآن الكريم: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين" "الممتحنة:8" ومن الملاحظ في هذه الآية- وفي أيات أخري كثيرة- أن القرآن لم يستخدم أسلوب الأمر بطريق مباشر وإنما استخدم أسلوب التنبيه والتوجيه الذي يتطلب استخدام العقل الإنساني. ومن عادة القرآن أن يعالج المشكلات بطريقة متدرجة تتفق مع ثقافة كل فرد. والإسلام لا يريد أن يقول للناس كلاما ليحفظوه ويعملوا به بطريقة آلية. وإنما يريد تربية النفس وتحقيق الذات والعمل المسئول الذي يؤدي عن اقتناع. ويشتمل النص القرآني الذي أوردناه علي ثلاثة أمور. أولها: أن الله سبحانه وتعالي لم ينه عن التسامح مع الآخرين. وثانيها: أن التسامح مع الآخرين الذين لم يعتدوا علي المسلمين والتعايش الإيجابي معهم بالبر والقسط هو العدل بعينه. وثالثها: التأكيد علي أن من يسلك هذا السبيل يحظي بحب الله سبحانه وتعالي. وبهذا الأسلوب المقنع الذي يخلو من الإكراه علي فعل شئ ما. أو الامتناع عنه تصل الرسالة القرآنية- رسالة التسامح- إلي النفوس في يسر وسهولة وتحقق الهدف المطلوب وهو نشر التسامح بين الناس علي أوسع نطاق.