أفرزت الأقمار الصناعية مشهدا اتصاليا لا يعترف بالحدود القطرية, ولا بالخصوصية الثقافية, ولا يستأذن في انتهاك أدمغة الشعوب الفقيرة مسلمين ومسيحيين. ووجد المشاهد المعاصر نفسه أمام فضائيات ترفع الدين( إسلامي أو مسيحي) شعارا, ولكنها ذات مرجعيات مختلفة ومقاصد خفية, ثم حدث في الفضائيات الإسلامية ما يسمي ب( انفجار الفتيا) وظهر علي شاشات هذه الفضائيات شباب في ثياب دعاة... كثير منهم غير مؤهل للإفتاء ولمسنا جرأة غير عادية علي دين الله. وإذا تجاوزنا خطاب المجاملات الذي يحدث أحيانا في الأزمات, فإنه يمكن القول بأن لأصحاب الفضائيات الدينية أهدافا كثيرة منها السياسي والاقتصادي والدعائي.. وقد يكون بعض هذه الأهداف لا شأن لها بالقيم والمبادئ التي تحثنا عليها الأديان. ولقد أضافت الفضائيات الدينية إلي الساحة الإعلامية نوعا غريبا من الخطاب الإعلامي تمثل في الخطاب التمجيدي والمذهبي الموجه لأتباع كل دين أو مذهب, والذي يعتمد علي إظهار المزايا لكل مذهب أو دين علي حين يقدم أتباع الدين أو المذهب الآخر السلبيات والانتقادات للآخر...!! وتزدهر الآن سوق الفضائيات الدينية ولعل ذلك يعود إلي الآتي: 1 رغبة بعض أثرياء المسلمين في الدفاع عن الهوية الإسلامية التي تواجه مخاطر الذوبان بعد الغارة الأمريكية علي العالم الإسلامي. 2 الرغبة في الكسب المالي أو السياسي.., وربما رأينا قنوات دينية إسلامية ذات أهداف مذهبية وسياسية تسعي إلي تحقيق انتشار مذهبي طائفي معين. 3 رد الفعل الطبيعي إزاء الإعلام القائم علي التحلل من كل القيم, فكان لابد من إعلام يحافظ علي الثوابت لكل أمة, والثوابت دائما تنطلق من عقيدة. 4 التطور الطبيعي في وسائل الدعوة, فعن طريق الفضائيات تستطيع أن تخاطب ملايين في أماكن متفرقة وبعيدة بخلاف المكان المحدود, فطبيعي أن يتوجه الدعاة إلي تلك الوسيلة التي يخاطبون من خلالها الملايين بخلاف وسائل يخاطبون من خلالها العشرات والمئات وفي أحسن الأحوال أحاد الآلاف. ولأن هذه الظاهرة جديدة جدا, فإنها تحتاج إلي وقت, كي نفهمها ولتتضح ملامحها... فأكثر الفضائيات الدينية الناطقة بالعربية قدما هي الفضائيات الإسلامية العربية التي لم يمر عليها أكثر من عشر سنوات, أي أننا أمام ظاهرة جديدة لم تتبلور بعد في أطرها التنظيمية ولا سياساتها ولا إستراتيجيتها, ليمكن الحكم عليها بما لها وما عليها برغم أن الكنيسة الإنجيلية كانت أسبق بكثير من المحافل الإسلامية في محاولة دراسة هذه الظاهرة حين قامت كلية اللاهوت الإنجيلية بالعباسية بالدعوة إلي ندوة حول( الفضائيات المسيحية ما لها وما عليها2005), مما يدل علي أن الظاهرة باتت مقلقة للمسيحيين والمسلمين معا..! ومن هنا.., نود أن نشير إلي عدد من الملاحظات علي أداء بعض هذه القنوات الدينية علي النحو التالي: 1 أن غالبية الخطاب الديني لهذه القنوات علي اختلاف مذاهبها بأنماطه وتقسيماته الوعظية والفكرية له إشكالية في اللغة, والمصطلح والتأويل, نعم توجد عدة دراسات عن الخطاب الديني والحاجة إلي تجديده, غالبية الخطاب الديني في هذه الفضائيات بحاجة إلي دراسات تحليلية نقدية شاملة, تمكننا من ضبطه وإصلاح بنيته ومنطقه وإشكالياته وقضاياه, وذلك لتحرير الفكر الديني من تلك التأويلات البشرية التي قد تحظي بالقداسة بينما هي كمال يقال يؤخذ منها ويرد, ولكن كحاجة حقيقية وليس استجابة لما تطالب به قوي الهيمنة. 2 أن بعض هذه الفضائيات اتخذت من الدين ستارا للصراعات السياسية في اطار تعدد وتناقضات مواقع القوي الإسلامية, فأدي ذلك إلي مزيد من التشدد وعنف الخطاب, وقد برز هذا في الفتاوي غير المنضبطة لبعض الدعاة الجدد أو في الفتاوي المتهافتة للبعض الآخر الذي يحاول إرضاء العامة ولا تخلو بعض الدروس الدينية المذاعة من الرؤي المنغلقة. 3 أن قائمة أولويات الخطاب الديني لبعض هذه الفضائيات الدينية الدولية وعظا وإرشادا وفتاوي وفقها لا تعكس واقع الحال في كثير من الدول الإسلامية وبخاصة في عالمنا العربي. 4 أن بعض الفضائيات الاسلامية للأسف تقع في خطأ إنتاج صور سلبية للإسلام والمسلمين فمثلا: ثمة انقسامات مذهبية في العالم الإسلامي كانت لها تجليات واضحة في الفضائيات الدينية الشيعية التي ربما تجد انعكاسات في برامجها ومقولاتها علي الساحة العراقية الآن إلي الحد الذي غدي النعرة المذهبية, ولم يكن لتلك القنوات الشيعية دور يذكر في بيان حرمة المسلم دمه وماله وعرضه, ولا التنديد بما يحدث من قتال واغتصاب وخطف.. وبرغم الملاحظات السابقة فان للفضائيات الاسلامية بعض الايجابيات أهمها نشر الثقافة الإسلامية في المجتمع: وبيان أنه لا يمكن فصل الدين عن جانب من جوانب الحياة.., إننا نأمل ونرجو أن تتحول تلك القنوات وتصبح أشبه ما يكون بجامعة كبري مفتوحة لها مناهجها اليومية المتجددة والمتغيرة مع الظروف والأحداث, والمتطورة بتطور الحاجات والاهتمامات, والمتسعة باتساع الوعي العام والنشاط العام للمجتمع, والقائمة علي بيان أن الدين يشمل جميع جوانب الحياة, وهو المحرك الرئيسي للنشاط الإنساني أيا كان هذا النشاط, وأن الدعوة لفصل الدين عن أي مجال من مجالات الحياة, هي دعوة لتخلف الأمة ونكبتها, وتمكين للمستعمر والمحتل منها, وهي دعوة قاصرة ومخالفة للشريعة.