مواطن ومخبر ومخرّب «المصرى اللى على حق. يقول للغلط لأ». أحدث شعار لحكومة لا تحب الشعارات. شعار غريب فى حملة إعلانية تطالب المواطنين بالعودة إلى ركوب القطارات. هى الوسيلة المثالية: الرخيصة والمريحة. يدفع صاحب السيارة مبالغ ضخمة فى غرامات تجاوز السرعة، والعائلات تنحشر فى أوتوبيسات وميكروباصات لا تسمح لهم بمجال الاتساع الطبيعي. لكن القطار متسع ومريح، أو هكذا تريد الدولة من دعايته أن تظهره. دعاية موجهة غالباً إلى شريحة اجتماعية قادرة على الاختيار حسب «مجال حركتها». الدعاية تحاول مسح ذاكرة فواجع القطارات الكثيرة والشهيرة لترسم صورة قطار الأحلام. قطارات متخيلة. لا يراها المليونا راكب الذين يسافرون عبر القطارات يومياً. يرون فقط علامات تغيير. الخبراء أكثر سيكتشفون تغيير بعض القطارات. عشاق التأمل سيلاحظون تغييرات فى الألوان، وبعدما كانت الألوان الرمادية مسيطرة، دخلت ألوان جديدة على العربات، أكثرها انتشاراً هو اللون الأزرق. كما استبدلت المقاعد الخشبية فى «قطارات الترسو» بمقاعد بلاستيكية. ربما تكون هذه خطوة أولى فى «التجديد» أو استعادة الروح لأكبر شبكة سفر وأقدمها وأجملها. شبكة القطارات المصرية لا تنتمى فقط إلى فئة الوسيلة الأرخص، لكنها بالنسبة إلى شرائح من البورجوازية الحالمة، هى مكان رومانسى للسفر، يتيح للعشاق الاختلاء أو السير والتنقل أو الانفراد. وتتيح لهم مغامرات واحتفالات وأشكالاً فانتازية. فقد جعلت السينما المصرية من القطار منصّة مثيرة لهذه الأشكال، بالصوت الهادر والصفارات وإيقاع الحركة على القضبان. شرائح أخرى ترى فيه المساحة الحرة فى السفر. هؤلاء ركاب الترسو. مغامرو القطارات الذين يسافرون على سطح العربات لا فى قلبها. ويجلسون على حوامل الحقائب عندما لا يجدون مقاعد شاغرة. ويتسامرون فى وقفات خطرة بين كل عربتين. ركاب الهواء الطائر يسرقون مساحة لهم فى الفراغ بين العربات. يظل هؤلاء هم الكتلة الأضخم الموازية لركاب قطار الأحلام، الذين يشبهون أبطال فيلم رومانسى وميلودرامي. تلعب الإعلانات الجديدة فى مسافة بين الرومانسى والمغامر. تبحث عن راكب مثالي. مواطن مثالى يتحول عند الضرورة إلى مخبر يتلصص ويوقف «جرائم الغلط» ضد القطار. هذا هو شرط المواطنة الصحيحة، كما يسرب الإعلان الذى يعلن أن جرائم مثل تقطيع المقاعد أو التكسير أو حتى الهروب من دفع الأجرة، لن يوقفها سوى المواطن اليقظ. هذه اليقظة لا تخلو من فاشية تلغى فكرة الدولة الحديثة وتستبدلها بدولة الجنود المخلصين. فاشية تذكر بدعوات اصطياد الهاربين من حرب الرايخ الثالث فى ألمانيا أو فرق قتل الهاربين من الحرب الأهلية الأميركية قبل 200 سنة. المواطن هو «جندى مخلص» يقدّس التعليمات، وفق أخلاقية تسيطر عليها الدولة. الدولة ليست مديرة شؤون البلاد. الدولة هى «الهدف الأعلى»، ونموذج يفنى فيه المواطنون، ويخدمونها بإرادتهم أو بنزعتهم إلى المثال والكمال. الموديل الفاشى له مغرموه. لا يشعرون بفاشيته، لكنه يداعب عواطف المثالية ويوقظها على طريقة «ابدأ بنفسك أولاً»، وهى دعوة تصلح لنصائح الكنيسة لكنها لا يمكن أن تتحول إلى أساس للعلاقة بين الفرد والدولة. الدولة تدار بالقوانين. والفرد يلتزم أو لا يلتزم. هذه حريته التى تواجه بتكاليف الخروج عن القانون. فى المقابل، يتمتع الفرد بحزمة حقوق تتحقق بها مواطنته وعضويته فى الدولة، وتتحقق بها الدولة نفسها. هنا الإعلان يلعب فى مسافة ضبابيّة، لا هى فاشية ولا هى حديثة. تسرق الاهتمام برونق الفعل المثالى وزهوة مقاومة «الغلط». بينما هذا دور الدولة وقوانينها. «إنه اعتراف من الدولة بغيابها»، هكذا قال شاب يعبر الثلاثين. لكن هذه النوعية المتسربة من خطابات عبر الإعلان ليست اعترافاً، بل تخلّ. وإلقاء المسؤولية على المخربين. «القلة المنحرفة»، التى توقف عجلة تطوير هيئة السكك الحديدية. لمسات الفاشية على هذه النوعية من الخطابات عادية تماماً. وتنتهى بمجرد نهاية الإعلان. تنتهى لأنه عندما يذهب المواطن المثالي، الذى أوقظ فيه الإعلان الشعور بمطاردة المخربين، لن يجد القطارات التى شاهدها فى الإعلان وسيظل يبحث عنها ليمارس دوره الذى أوقظ من أجله. محطة القطار هنا ليست إلا ملعباً افتراضيّاً تريد الحكومة تدريب المواطن فيها على دوره الجديد: عارف أولاً بالصح والخطأ. ومتلصص ثانياً للحفاظ على أمواله التى دفعها للتطوير. ومحارب ثالثاً يقطع رقبة من يخالف أو يقوده إلى أقرب عسكرى يستلقى على مقعده فى انتظار اكتمال المشهد الوطنى المؤثر يكاد أن يغنى «كله علشانك يا مصر». وستفرّ الدموع من عيون الجميع: المواطن والمخبر والمخرّب. صناعة المتفرّج الصالح إعلانات الدولة عن نفسها، أو عن مؤسساتها القديمة والجديدة، تحاول إخراج صورة جديدة لمفهوم الدولة. يستلهم مصمّموها تعبير أنتونيو غرامشى الشهير «المثقف العضوي»، الذى يعرف مصالحه ومصالح الدولة ويوجّه المتفرج إلى مصالحه الحكومة حنونة. تطارد الخارجين على الشاشات. تطاردهم بحنّو بالغ. تهدهدهم وتعرّفهم الطريق إلى الخير. فالضرائب «مصلحتك أولاً». وتجهيز الدفاتر السليمة نقلة مؤسسية تطهر الفرد من مساوئ مرحلة «القط والفأر» بين «المصلحة» (وهو الوصف القانونى للهيئة المشرفة على تحصيل الضرائب) و«التاجر» المراوغ. لعبة المطاردة تتم فى أجواء مثالية. موظفون على درجة عالية من الأناقة. ومكاتب لامعة نظيفة لا توجد إلا فى أحلام الدول الحديثة. الواقعية مفتقدة فى إعلانات الدولة عن نفسها. الاغتراب يتسع رغم حس الفكاهة الجديد على الإعلانات الإرشادية الموجهة من الدولة إلى المواطن. إعلانات تفترض مواطناً محاصراً داخل المصيدة ينتظر رسائلها الودودة تجاهه. تختفى هنا جحافل الشرطة والموظف البيروقراطى والمؤسسة القاتمة القاسية. وتظهر بألوان مبهجة ومشاهد تلطف من جهامة الدولة وأنيابها المكشرة دائماً. الإعلانات تقود المتفرج إلى حالة «المواطن الصالح» الذى تستحقه دولة تعلن عن نفسها. الإعلانات إله جديد يعيد صياغة الدولة. يخرج مصمم الإعلانات من كواليس الحزب المهيمن على السلطة ليصبح هو صانع الصور وقائداً سرياً للجماهير وصائغ وعى الدولة بنفسها والمواطن بنفسه. مصمم الإعلانات شريك فى تصميم توجهات الدولة فى ثوبها الجديد. مبشر بالمجموعات الصاعدة إلى السلطة. يستخدم خليطاً من أساليب خفيفة (الغناء الشعبى والسخرية والحكاية) والأسلوب القديم، الذى تتجسد فيه الدولة فى صوت متعالٍ قادم من خارج الصورة، من منطقة غامضة، يقول الحقيقة ولا يراجعه فيها أحد. الصوت الأعلى من الجميع يوجّه رسالته كأب حنون أو مدرس ودود. يملك قوة السلطة، لكنه يبدو لطيفاً، ناصحاً، حكيماً. يخرج الصوت من طبقات عميقة ليبلغ الناس بأن «مصر حلوة قوي». ويتحدث الإعلان عن بناة مصر من أيام الفراعنة. لكن الأهم هو من يبنى مجمعاً سكنياً فى الصحراء. الإعلان عن شركة عقارات يملكها هشام طلعت مصطفى، المحرّض على قتل سوزان تميم. وبعيداً عن محاولة غسل سمعة الشركة، فإن الإعلانات تحوّل المشروع التجارى إلى عمل وطني. وهذا ما يجعل البيزنس رحلة وطنية. ومصر هى الهدف، لا الأموال أو حتى النجاح. الفرد هنا وطن. والشركة وطن. وكل شيء من أجل مصر وللمصريين؛ الصحيفة والمجمع الإسكانى ومساحيق الغسيل، وحتى حفاضات الأطفال. هذه نوعية إعلانات تكرس صورة الدولة المهيمنة بدون أن ترى جسدها الضخم. دولة حنون يسعى الشعب الخامل أمام الشاشة إليها لخدمتها وللاستمتاع بحنانها معاً. ماكينة وطنية، ثقيلة وقاسية، رغم حنانها فى شرائح إعلانات تقطع برامج ومسلسلات تحاول المنافسة فى خدمة الوطن. منافسة مرهقة. مساحيق غسيل الثروات إعلانات «استرجل» لا تزال مستمرة لتضع مانيفستو صورة الرجل (لا يهتم بمظهره ولا يبكى إلا فى مباريات الكرة). وطبعاً يشرب مشروب الشعير الخالى من الكحول الذى تعلن عنه. رجولة على المقياس، كما ظلت الأنوثة طويلاً على مقياس الإعلانات. الآن القيم على المقياس. شركة الهواتف المحمولة قالت «ماذا يحدث عندما يقرر 23 مليون مصرى القيام بعمل واحد». الصور تلاحقت على أشخاص عيونهم مفتوحة باتساع، وكأنهم قادمون من عالم فضائى مرعب. لكن الإعلان ينتهى بمعلومة أنه طوال رمضان سيخصم من الفاتورة نسبة لعمل الخير. ما هو الخير؟ توزيع الصدقة على متسولين لا يقدرون على شراء ملابس العيد. إعلان آخر يحاول نقل ظاهرة موائد الرحمن من القاهرة إلى الصعيد. وإعلانات أخرى تحرض على فعل الخير. يتلخص الخير فى الاستجابة للتسول. أصبحت طلبات التبرع فرعاً من فروع الإعلان. فرع أبيض تفاخر به الطبقة المحبة لنوع معين من الخير. النوع الأسهل الذى يضمن دعوات المتسولين وتطهير المتبرعين. معادلة مضمونة يحققها الإعلان بنشر ثقافة «الصدقة»، لا فعل الخير حسب مفاهيم أخرى. مفهوم له أصل شعبى «تبرع بالسنارة لا السمكة»، ويعتمد على إقامة مؤسسات رعاية لمن لا رعاية له ومؤسسات توفر عملاً للحالات الميؤوس منها. الإعلان يروج للتطهير الرخيص. طفل يعطى ملابسه المستعمله لطفل آخر. أو ثرى يقيم مأدبة لمتجولين فى الشوارع. هذه الدعاية لطريقة فعل الخير تلعب فقط على شراء تذاكر فى الجنة. إعلانات «مستشفى سرطان الأطفال»، أشهر مشاريع قامت بالتبرعات عبر السنوات العشر الماضية، مذيّلة بالآيات القرآنية، وكأن الثواب للمسلمين فقط ويمنع للمسيحيين. التركيز على تذاكر الجنة يضع التبرعات الخيرية فى منطقة التسول لا التضامن الاجتماعي. التسول أصبح قيمة كبرى فى إعلانات تثير الشفقة والبكاء على من «لا يمتلك الملابس أو من يظل فى بيته منتظراً كسرة خبز تطوع بها المحسن العطوف». وكما أن الرجولة على طريقة «استرجل» قاسية وظالمة، فإن الخير انتظاراً لتذاكر الجنة، ورغم رقته، لا يخلو من تعالى وتمايز اجتماعى لا يسأل عن السبب، لكنه يغطى على العجب بمساحيق غسيل الثروات.