فى الثمانينيات حصلت على درجة الماجستير فى طب الأسنان من جامعة الينوى بالولايات المتحدة ، وكان نظام يلزم طالب الدراسات العليا بدراسة مجموعة من المواد، وبعد ذلك يعد البحث ليحصل على الدرجة العلمية وفى أحوال استثنائية كانت الجامعة تمنح بعض الطلاب المتفوقين الحق فى إعداد البحث ودراسة المواد فى نفس الوقت، وفى تاريخ قسم الهيستولوجى (علم الأنسجة) حيث كنت أدرس استطاع طالبان فقط، فى مرتين متفرقتين أن يحصلا على درجة الماجستير خلال عام واحد، وكان إنجاز هذين الطالبين محل تقدير الأمريكيين جميعا، هذان الطالبان كانا مصريين والمشرف عليهما أيضا مصرى هو الدكتور عبد المنعم زكى، ثم عدت إلى مصر وعملت طبيب أسنان فى أماكن عديدة، من بينها شركة أسمنت طره، حيث اكتشفت بالصدفة أن معمل الأسمنت فى هذه الشركة قد لعب دورا مهما فى تاريخ مصر، فأثناء الإعداد لحرب 73 عكف الكيميائيون بالشركة فخرى الدالى ونبيل غبريال وآخرون، على تطوير نوع خاص من الأسمنت بالاشتراك مع سلاح المهندسين بالجيش، وتوصلوا بعد أبحاث مضنية إلى تصنيع أسمنت جديد يتمتع بصلابة مضاعفة ومقاومة استثنائية لدرجات الحرارة العالية، وقد استعملت الضفادع البشرية المصرية هذا الأسمنت أثناء العبور لسد الفتحات فى خط بارليف. وأثناء العبور استعمل الجنود المصريون مضخات المياه فامتلأ خط بارليف بالثقوب ثم تهاوى وكأنه قطعة من الجبن، الحديث عن نبوغ المصريين يطول هل تعلمون عدد العقول المهاجرة المصرية فى أوروبا وأمريكا واستراليا؟. 824 ألف مصرى، أى ما يساوى عدد السكان فى بعض البلاد العربية، كل هؤلاء المصريين مؤهلون علميا على أعلى مستوى ومن بينهم ثلاثة آلاف عالم متخصص فى علوم بالغة الأهمية مثل الهندسة النووية والجينات والذكاء الصناعى وكلهم يتمنون أى فرصة لخدمة بلادهم.. وفى دول الخليج يتجلى النبوغ المصرى بأوضح صوره، فهذه الدول التى يمنحها النفط كل صباح ملايين الدولارات استطاعت أن تنشئ مدناحديثة مرفهة وشركات اقتصادية عملاقة بينما نجحت مصر فى إخراج أحمد زويل ومجدى يعقوب ونجيب محفوظ وعبد الوهاب وأم كلثوم وآلاف النوابغ المصريين لأن نبوغ الشعوب لا علاقة له بالثراء، لكنه تجربة حضارية يتم توارثها عبر أجيال طويلة.. هذا التراكم الحضارى متوافر فى مصر أكثر من أى بلد عربى آخر، بل إن الدول العربية النفطية مدينة للمصريين فى كل ما أنجزته، فالذى علمهم فى المدرسة وفى الجامعة أستاذ مصرى، والذى خططوا مدنهم وأشرف على إنشائها مهندسون مصريون والذين أنشأوا لهم التليفزيون والإذاعة إعلاميون مصريون.. والسؤال الذى يتبادر للذهن، إذا كانت مصر تمتلك كل هذا النبوغ الإنسانى فلماذا تقهقرت حتى أصبحت فى مؤخرة الدول؟.. ولماذا يعيش معظم المصريين فى الحضيض؟.. السبب كلمة واحدة الاستبداد.. سوف تظل مواهب مصر مهدرة وإمكانياتها مضيعة ما دام النظام السياسى استبداديا وظالما.. المناصب فى مصر تمنح دائما لأتباع النظام بغض النظر عن كفاءتهم أو عملهم.. ولعلنا البلد الوحيد فى العالم الذى يخرج فيه وزير فاشل من مجال الإسكان فيتولى المسئولية فى قطاع البترول، الذى لا يعرف عنه شيئا (لمجرد أن الرئيس مبارك يحبه) والبلد الوحيد الذى يعين فيه شخص رئيسا للوزراء وهو لم يحضر اجتماعا سياسيا فى حياته.. الشعب المصرى لم يختبر.. أو هو اختبر فى أوقات قليلة جدا.. مثل حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر وبناء السد العالى.. فى كل مرة اختبر فيها المصريون اجتازوا الاختبار بتفوق لكنهم عادوا بعد ذلك إلى دكة الاحتياطى.. نحن- المصريين- أشبه بمجموعة من لاعبى الكرة الموهبين، لكن المدرب لا يحبنا ولا يحترمنا ولا يريد إعطاءنا الفرصة أبدا، وهو يستعمل فى الفريق لاعبين فاشلين وفاسدين يؤدون دائما إلى هزيمة الفريق فى قوانين الكرة من حق اللاعب إذا جلس على دكة الاحتياطى موسما كاملا أن يفسح العقد.. مصر كلها جالسة على دكة الاحتياطى منذ ثلاثين عاما، تتفرج على هزائمها ومصائبها ولا تستطيع حتى أن تعترض.. أليس من حق مصر بل من واجبها أن تفسخ العقد؟.. خلال زيارتى الأخيرة إلى نيويورك رأيت كالعادة مصريين كثيرين من خريجى الجامعات يعملون خدما فى المطاعم وعمالا فى محطات البنزين، فى ذات ليلة وجدت شخصا واقفا أمام عربة يبيع فيها سندوتشات السجق، اقتربت منه وتعرفت عليه فوجئت أنه مصرى وخريج طب عين شمس، فجلست فى الشارع بجواره.. وجاء زبون فقام ليصنع له السندوتشات وفكرت أننى أرى نموذجا حيا لما يفعله نظام الحكم بالمصريين.. حكى لى كيف كافح أبوه الموظف فى الأوقاف حتى علمه هووأختيه، وكيف اكتشف بعد تخرجه نظرية اللاءات الثلاث كما اكتشف أن العمل فى الخليج مهين وغير مضمون والتسجيل للدراسات العليا يحتاج إلى تكاليف لا يملكها.. حكى لى كيف طلب من البنت الوحيدة التى أحبها أن تنساه لأنه لا يستطيع أن يتزوجها ولا أن يجعلها تنتظره.. ساد الصمت بيننا فقال محاولا المرح: تحب تسمع محمد منير؟.. عندىكل شرايطه.. أخرج جهاز كاسيت صغيرا من داخل العربة واضاف صوت منير الخلفية إلى المشهد البائس.. ثم استأذنت للانصراف فإذا به يحتضننى بقوة ولم يتكلم لم نكن بحاجة للكلام.. كنت أحس به تماما.. ابتعدت بضع خطوات فى اتجاه الميدان، ولم ألتفت خلفى.. لكنه نادى بصوت عال: - باقولك إيه؟. التفت فوجدته يبتسم وقال: - سلم على مصر عشان وحشتنى قوى.. ..الديمقراطية هل الحل.