تقديرًا لجهودهم.. نائب محافظ سوهاج يشارك عمال النظافة ويهديهم كابات ووجبات خفيفة    أهم أخبار السعودية اليوم.. ولي العهد يتلقى اتصالًا من الرئيس الفلسطيني ويؤكد دعم المملكة لغزة    علاء عبد العال يمنح لاعبي غزل المحلة راحة قبل مواجهة سموحة    موعد مباراة ريال مدريد وتيرول والقنوات الناقلة    أرادت إنقاذه فلحقت به.. غرق طفل وعمته بنيل سوهاج    أمين الفتوى يعلق على حادث أسرة كورنيش الإسكندرية: استهانة ومقامرة خطيرة    صانع إعلان صلاح وميسي في المتحف الكبير: الإعلان بالAI وهو هدية للمتحف    في ذكرى رحيله.. نور الشريف أيقونة الفن المصري الذي ترك إرثًا خالدًا في السينما والدراما    تفاصيل شخصية تارا عماد في مسلسل ولاد الأبالسة    أجمل عبارات تهنئة بالمولد النبوي الشريف للأهل والأصدقاء    وصفات حلويات المولد النبوي الشريف السهلة بدون فرن    مجلس صيانة الدستور الإيراني: نزع سلاح حزب الله حلم واهم    «الحرارة تتخطى 40 درجة».. تحذيرات من موجة حر شديدة واستثنائية تضرب فرنسا وإسبانيا    نتيجة تنسيق المرحلة الثانية 2025 لطلاب الثانوية العامة.. الرابط وخطوات الاستعلام فور ظهورها    رسميًا.. آخر موعد لحجز شقق الإسكان الاجتماعي الجديدة 2025 لمتوسطي الدخل «سكن لكل المصريين 7»    في ذكرى وفاة نور الشريف.. صلاح عبد الله يرثيه بقصيدة مؤثرة (فيديو)    المكتب الفني لمفتي الجمهورية: مؤتمر دار الإفتاء يناقش تأثير الذكاء الاصطناعي على الفتوى    مهاجم مانشستر يونايتد الجديد: إبراهيموفيتش قدوتي وأتمنى مقابلته يومًا ما    جدول مواقيت الصلوات الخمسة غدا الثلاثاء 12 أغسطس في المنيا والمحافظات    رد حاسم من كهرباء الإسماعيلية على مفاوضاتهم مع محمود كهربا (خاص)    القولون العصبي وأورام القولون- 3 أعراض للتفريق بينهما    إقبال كثيف على شواطئ الإسكندرية مع ارتفاع الحرارة ورفع الرايات التحذيرية    لافتة إنسانية.. محافظ الفيوم يعلّق العمل الميداني لعمال النظافة خلال ذروة الموجة الحارة    تفسير رؤية الدجاج في المنام.. الدلالات النفسية    غدًا.. إعلان النتيجة الرسمية لانتخابات مجلس الشيوخ 2025 (تفاصيل)    رمضان عبد المعز يفسر قوله تعالى: "وأما بنعمة ربك فحدث"    هل الأموات يسمعون ويراقبون أحوال الأحياء؟.. الإفتاء تجيب (فيديو)    استمرار فعاليات البرنامج الصيفي للطفل بمديرية أوقاف الفيوم بمشاركة الأئمة والواعظات    رابط المناهج المطورة للصفوف من رياض الأطفال وحتى الصف الثاني الإعدادي    تحليل المخدرات شرطا للترشح لعضوية أو رئاسة مجالس إدارات الأندية ومراكز الشباب    محافظ كفر الشيخ يعتمد تحديث المخطط التفصيلي لمدينة سيدي سالم    ما حكم تأخير الإنجاب فى أول الزواج بسبب الشغل؟ .. عضو بمركز الأزهر تجيب    محافظ الأقصر يبحث مع وفد الصحة رفع كفاءة الوحدات الصحية واستكمال المشروعات الطبية بالمحافظة    تداول 56 ألف طن بضائع عامة و693 شاحنة بمواني البحر الأحمر    روسيا تعزز قاعدتها وتزيد عدد قواتها في القامشلي شمال شرقي سوريا    «يلوم نفسه».. كيف يتعامل برج العذراء عند تعرضه للتجاهل؟    شيخ الأزهر يستقبل مفتي بوروندي لبحث سُبُل تعزيز الدعم العلمي والدعوي والتَّدريب الديني    بدء تداول أسهم شركتي «أرابيا إنفستمنتس» في البورصة المصرية    شوبير: كوبري وسام أبو علي؟ عقده مستمر مع الأهلي حتى 2029    عرض خاص لفيلم درويش بطولة عمرو يوسف اليوم    نشرة «المصري اليوم» من الإسكندرية: قرار قضائي عاجل بشأن «ابنة مبارك».. وحبس المتهمين في واقعة ركل «فتاة الكورنيش»    محمد إيهاب: نسعى لإخراج البطولة العربية للناشئين والناشئات لكرة السلة في أفضل صورة    فيبا تضع مباراتي مصر ضمن أبرز 10 مواجهات في مجموعات الأفروباسكت    سلوت: ليفربول بحاجة لتحسين الأداء الدفاعي    تأجيل محاكمة المتهمين في قضية خلية العجوزة    الرئيس الفرنسي: على إسرائيل وقف إطلاق النار في غزة وإنهاء الحرب فورا    إجراء 15 عملية قلب مفتوح وقسطرة علاجية في الفيوم بالمجان    الأمم المتحدة: قتل إسرائيل للصحفيين "انتهاك خطير" للقانون الدولي    وزير الزراعة و3 محافظين يفتتحون مؤتمرا علميا لاستعراض أحدث تقنيات المكافحة الحيوية للآفات.. استراتيجية لتطوير برامج المكافحة المتكاملة.. وتحفيز القطاع الخاص على الإستثمار في التقنيات الخضراء    أمين الفتوى: الحلال ينير العقل ويبارك الحياة والحرام يفسد المعنى قبل المادة    شعبة الجمارك: تسويق الخدمات الجمركية مفتاح جذب الاستثمار وزيادة الصادرات    جريمة أخلاقية بطلها مدرس.. ماذا حدث في مدرسة الطالبية؟    سحب 950 رخصة لعدم تركيب الملصق الإلكترونى خلال 24 ساعة    الصحة: 40 مليون خدمة مجانية في 26 يومًا ضمن «100 يوم صحة»    بعد تعنيفه لمدير مدرسة.. محافظ المنيا: توجيهاتي كانت في الأساس للصالح العام    الرعاية الصحية: إنقاذ مريضة من فقدان البصر بمستشفى الرمد التخصصي ببورسعيد    نائب ترامب: لن نستمر في تحمل العبء المالي الأكبر في دعم أوكرانيا    بقوة 6.1 درجة.. مقتل شخص وإصابة 29 آخرين في زلزال غرب تركيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصر الجالسة على دكة الاحتياطى..!!
نشر في الشروق الجديد يوم 25 - 08 - 2009

فى الثمانينيات حصلت على درجة الماجستير فى طب الأسنان من جامعة الينوى بالولايات المتحدة.. وكان نظام الجامعة يلزم طالب الدراسات العليا بدراسة مجموعة من المواد، وبعد ذلك يعد البحث ليحصل على الدرجة العلمية فى أحوال استثنائية كانت الجامعة تمنح بعض الطلاب المتفوقين الحق فى إعداد البحث ودراسة المواد فى نفس الوقت.. وفى تاريخ قسم الهيستولوجى (علم الأنسجة)، حيث كنت أدرس استطاع طالبان فقط، فى مرتين متفرقتين، أن يحصلا على درجة الماجستير خلال عام واحد، كان إنجاز هذين الطالبين محل تقدير الأمريكيين جميعا. هذان الطالبان كانا مصريين والمشرف عليهما أيضا مصرى هو الدكتور عبدالمنعم زكى.. ثم عدت إلى مصر وعملت طبيب أسنان فى أماكن عديدة، من بينها شركة أسمنت طره، حيث اكتشفت بالصدفة أن معمل الأسمنت فى هذه الشركة قد لعب دورا مهما فى تاريخ مصر.. فأثناء الإعداد لحرب 73 عكف الكيميائيون بالشركة، فخرى الدالى ونبيل غبريال وآخرون، على تطوير نوع خاص من الأسمنت بالاشتراك مع سلاح المهندسين بالجيش.. وتوصلوا بعد أبحاث مضنية إلى تصنيع أسمنت جديد يتمتع بصلابة مضاعفة ومقاومة استثنائية لدرجات الحرارة العالية، وقد استعملت الضفادع البشرية المصرية هذا الأسمنت أثناء العبور لسد الفتحات فى خط بارليف.. فلما فتح الإسرائيليون مواسير النابالم، التى كانت كفيلة بإحالة مياه القناة إلى جهنم، أصابهم الذهول من قدرة الأسمنت المصرى المعالج على مقاومة النابالم الحارق وإيقافه تماما حتى تحت الضغط العالى..
ثم قرأت بعد ذلك حكاية أخرى. فقد كان خط بارليف أحد أهم الموانع العسكرية فى التاريخ وكانت التقديرات أنه يحتاج إلى قنبلة نووية لهدمه، لكن مهندسا مصريا نابغا هو اللواء باقى زكى من سلاح المهندسين درس تركيب خط بارليف بعناية فوجده ترابى التكوين وتوصل إلى فكرة عظيمة على بساطتها، فقد اخترع مدفعا مائيا وظل يزيد من قوة دفعه للمياه حتى تكونت له قدرة اختراق شديدة.. وأثناء العبور استعمل الجنود المصريون مضخات المياه التى اخترعها باقى زكى فامتلأ خط بارليف بالثقوب ثم تهاوى، وكأنه قطعة من الجبن..
الحديث عن نبوغ المصريين يطول.. هل تعلمون عدد العقول المهاجرة المصرية فى أوروبا وأمريكا واستراليا؟ 824 ألف مصرى، أى ما يساوى عدد السكان فى بعض البلاد العربية.. كل هؤلاء المصريين مؤهلون علميا على أعلى مستوى، ومن بينهم ثلاثة آلاف عالم متخصص فى علوم بالغة الأهمية، مثل الهندسة النووية والجينات والذكاء الصناعى، وكلهم يتمنون أى فرصة لخدمة بلادهم.. وفى دول الخليج يتجلى النبوغ المصرى بأوضح صوره.. فهذه الدول التى يمنحها النفط كل صباح ملايين الدولارات، استطاعت أن تنشئ مدنا حديثة مرفهة وشركات اقتصادية عملاقة، لكنها لم تنجح فى أن تخرج أحمد زويل ولا مجدى يعقوب ولا نجيب محفوظ ولا عبدالوهاب ولا أم كلثوم ولا اسما واحدا يضاهى آلاف النوابغ المصريين.. لأن نبوغ الشعوب لا علاقة له بالثراء، لكنه تجربة حضارية يتم توارثها عبر أجيال طويلة.. هذا التراكم الحضارى متوافر فى مصر أكثر من أى بلد عربى آخر. بل إن الدول العربية النفطية مدينة للمصريين فى كل ما أنجزته.. فالذى علمهم فى المدرسة وفى الجامعة أستاذ مصرى، والذين خططوا مدنهم وأشرف على إنشائها مهندسون مصريون والذين أنشأوا لهم التليفزيون والإذاعة إعلاميون مصريون، والذين وضعوا دساتير هذه الدول وقوانينها فقهاء قانون مصريون، حتى النشيد الوطنى لهذه البلاد ستجده غالبا من تأليف وتلحين فنانين مصريين.
النبوغ المصرى حقيقة لا يمكن إنكارها والسؤال الذى يتبادر للذهن: إذا كانت مصر تملك كل هذا النبوغ الإنسانى فلماذا تقهقرت حتى أصبحت فى مؤخرة الدول..؟ ولماذا يعيش معظم المصريين فى الحضيض..؟ السبب كلمة واحدة. الاستبداد..
سوف تظل مواهب مصر مهدرة وإمكاناتها مضيعة ما دام النظام السياسى استبداديا وظالما.. المناصب فى مصر تمنح دائما لأتباع النظام بغض النظر عن كفاءتهم أو علمهم.. أصحاب المناصب فى مصر لا يهتمون بالأداء بقدر اهتمامهم بصورتهم عند الحاكم لأنه الوحيد الذى يستطيع إقالتهم.. ولأنهم غالبا عاطلون عن المواهب فهم يعادون أصحاب الكفاءة لأنهم خطر عليهم وعلى مناصبهم. ماكينة النظام المصرى تستبعد بانتظام الأكفاء وأصحاب المواهب وتفتح الباب للطبالين والزمارين.. ولعلنا البلد الوحيد فى العالم الذى يخرج فيه وزير فاشل من مجال الإسكان، فيتولى المسئولية فى قطاع البترول، الذى لا يعرف عنه شيئا (لمجرد أن الرئيس مبارك يحبه)، والبلد الوحيد الذى يعين فيه شخص رئيسا للوزراء، وهو لم يحضر اجتماعا سياسيا فى حياته.. الشعب المصرى لم يختبر.. أو هو اختبر فى أوقات قليلة جدا، مثل حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر وبناء السد العالى.. فى كل مرة اختبر فيها المصريون اجتازوا الاختبار بتفوق لكنهم عادوا بعد ذلك إلى دكة الاحتياطى..
نحن المصريين أشبه بمجموعة من لاعبى الكرة الموهوبين، لكن المدرب لا يحبنا ولا يحترمنا ولا يريد إعطاءنا الفرصة أبدا، وهو يستعمل فى الفريق لاعبين فاشلين وفاسدين يؤدون دائما إلى هزيمة الفريق.. فى قوانين الكرة من حق اللاعب إذا جلس على دكة الاحتياطى موسما كاملا أن يفسخ العقد.. مصر كلها جالسة على دكة الاحتياطى منذ ثلاثين عاما، تتفرج على هزائمها ومصائبها ولا تستطيع حتى أن تعترض.. أليس من حق مصر بل من واجبها أن تفسخ العقد..؟
خلال زيارتى الأخيرة إلى نيويورك.. رأيت كالعادة مصريين كثيرين من خريجى الجامعات يعملون خدما فى المطاعم وعمالا فى محطات البنزين. وذات ليلة كنت أتنزه فى شارع 42 الشهير فوجدت شخصا واقفا أمام عربة يبيع فيها سندوتشات السجق. كانت ملامحه مصرية فاقتربت منه وتعرفت إليه. فوجئت بأنه خريج طب عين شمس. دعانى إلى كوب شاى بالنعناع فجلست فى الشارع بجواره. وجاء زبون فقام ليصنع له السندوتشات، وفكرت أننى أرى نموذجا حيا لما يفعله نظام الحكم بالمصريين.. هذا الشاب اجتهد بشرف حتى حصل على مجموع الطب وتخرج طبيبا، وهو الآن يصنع سندوتشات السجق للمارة.. وكأنما أحس هو بأفكارى فجلس بجوارى وأشعل سيجارة، وقال:
عارف.. ساعات أحس إن حياتى ضاعت.. أخاف أقعد طول عمرى أعمل سندوتشات فى الشارع.. لكن أرجع وأقول أنا هنا بياع سجق لكنى مواطن محترم.. إنما فى مصر أنا دكتور صحيح بس ما ليش حقوق ولا احترام.
حكى لى كيف كافح أبوه الموظف فى الأوقاف حتى علمهم، هو وأختيه، وكيف اكتشف بعد تخرجه نظرية اللاءات الثلاث، كما سماها ساخرا: لا عمل ولا زواج ولا مستقبل. كيف اكتشف أن العمل فى الخليج مهين وغير مضمون والتسجيل للدراسات العليا يحتاج إلى تكاليف لا يملكها.. حكى لى كيف طلب من البنت الوحيدة، التى أحبها أن تنساه لأنه لا يستطيع أن يتزوجها ولا أن يجعلها تنتظره.. ساد الصمت بيننا فقال محاولا المرح:
تحب تسمع محمد منير.؟.. عندى كل شرايطه..
أخرج جهاز كاسيت صغيرا من داخل العربة وأضاف صوت منير الخلفية إلى المشهد البائس.. فالبرد يشتد والمدفئة الصغيرة بجوار العربة غير كافية، أحكمنا إغلاق معاطفنا ورحنا ننفخ فى أيدينا بلا فائدة.. انقطع الزبائن والشارع شبه خالٍ، لكنه مجبر على السهر للصباح كما اشترط عليه صاحب العربة.. ظللت معه طويلا نتكلم ونضحك.. ثم استأذنت للانصراف فإذا به يحتضننى بقوة. لم يتكلم. لم نكن بحاجة للكلام. كنت أحس به تماما. ابتعدت بضع خطوات فى اتجاه الميدان، ولم ألتفت خلفى.. لكنه نادى بصوت عالٍ:
باقولك إيه..؟
التفت فوجدته يبتسم. وقال
سلم على مصر عشان وحشتنى قوى..
.. الديمقراطية هى الحل.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.