تتنوع وتتعدد قضايا التعليم: المعلمون وكادرهم، نقابة المعلمين ودورها، الجودة والاعتماد الأكاديمى، التعليم والتطرف، العقاب والعنف فى المدرسة، تمويل التعليم، الجامعة وأوضاعها، انتخابات اتحادات الطلاب، الدروس الخصوصية وتأثيرها، تدهور الإمكانات والمهارات، ضبابية العلاقة بين التعليم وسوق العمل، المناهج التعليمية ومحتواها، التعليم والمواطنة، التعليم الفنى جدواه ودوره، التعليم الأزهرى وقضاياه، التعليم بين المركزية واللامركزية، مجالس الآباء والأمناء، الازدواجية التعليمية.. وغيرها من قضايا. وعلى ذلك تظل قضية الثانوية العامة: هى الأولى والأهم، أو هى قضية القضايا، ومحور العملية التعليمية كلها، الهدف الأول لجميع الملتحقين بالسلم التعليمى من أوله، ومعبرهم الوحيد إلى الجامعة، هذا على الرغم من أن الثانوية العامة لا تقبل إلا ثلث الحاصلين على الشهادة الإعدادية بينما يتخذ الثلثان الآخران (الفقراء غالبا) طريقهم إلى التعليم الفنى المتوسط (الزراعى والتجارى والصناعى) ومع رياح الخماسين العاصفة والمتربة التى تهب على بلادنا مطلع كل صيف، تهب كذلك خماسين الثانوية العامة، فتعلن حالة الطوارئ فى البيوت ومراكز الدروس الخصوصية والمدارس والوزارة، وتلتهب «مانشيتات» الصحف بأخبار الامتحان: فهو صعب أو فى مستوى الطالب المتوسط أو من خارج المقرر، مع الأخبار المثيرة عن غش أو تسريب للامتحانات. ويعد امتحان الثانوية العامة الذى تقرر لأول مرة فى بلادنا سنة1887، قضية سياسية إلى حد كبير، فقد واجه أحد وزراء التربية والتعليم السابقين محنة امتحان الثانوية العامة وما يشير إليه من تدهور وتهافت للعملية التعليمية كلها بالرفع العشوائى للدرجات، ورمى الكرة فى ملعب وزير التعليم العالى. وهكذا عرفت بلادنا لأول مرة فى تاريخ التعليم المجموع الذى يتجاوز 100%، وأصبح الحاصل على مجموع 80% لا يجد له مكانا فى أى كلية جامعية بينما كان مجموعه ذاك يجعله بين أوائل الجمهورية منذ عقود، بل إن هذا الوزير نفسه كان يفاخر فى مؤتمراته بأن الحاصلين على مجموع 90% من أبنائنا يقدر عددهم بعشرات الآلاف، بينما فى اليابان لا يحصل على مثل هذا المجموع إلا بضعة آحاد من الطلاب.. ناهيك عن الدراسات التتبعية التى تناولت هؤلاء المتفوقين وانتهت إلى أنهم «لا متفوقين ولا يحزنون» وإنما هى درجات لا تعنى شيئا. وفى وقت أسبق قال رئيس الجمهورية لوزير التعليم فى نهاية الامتحان: «الناس مخنوقة وأنا عاوزهم ينبسطوا، بحبحوا أيديكم مع الولاد». ولقد تابعنا جميعا حكاية الطالبة التى كتبت فى موضوع التعبير هجوما على الولاياتالمتحدة ورئيسها، الأمر الذى نقل موضوع التعبير من لجنة التصحيح إلى أمن الدولة إلى المديرية إلى الصحافة إلى رئيس الجمهورية نفسه، فعفا عن الطالبة ونجحها. وشهدت بلادنا منذ شهور مؤتمرا قوميا لتطوير التعليم الثانوى وامتحانه أسفر عن توصيات دارت حول التقريب أو دمج التعليمين العام والفنى، وربط النجاح بالتقويم الشامل، ونسب الحضور فى العام الدراسى، والسلوك والأنشطة وغيرها.. غير أننا فوجئنا جميعا بتصريحات تتراجع عن توصيات المؤتمر وتجعل الأمور وكأن شيئا لم يكن، لنظل جميعا ندور فى حلقة مفرغة، ونحن نرى الدنيا تتقدم من حولنا ونحن كما يقال «محلك سر». أما وقد وصل عدد الطلاب امتحان الثانوية العامة بمرحلتيها ما يزيد على 429 ألفا هذا العام، مما يعنى أن بلادنا فى خطر بالغ إذا لم يحدث تطوير حقيقى للدراسة الثانوية وامتحانها المحنة.. ومن هنا فإننى اعرض لثلاثة نماذج جادة وناجحة لامتحان الثانوية العامة لعلنا نجد فيها ما يقنع ويستفاد منه أولا: البكالوريا الدولية: تستند فلسفة برنامج البكالوريا الدولية على مفهوم التعليم الشامل والتبادل الثقافى بين الحضارات والاتصال بكل أنواعه. ويدرس الطلاب بشكل أكاديمى ستة موضوعات هى: اللغة (أ) أى اللغة الأم إنجليزية كانت أو عربية أو يابانية أو غيرها، ثم اللغة (ب) أى اللغة الثانية،التى يختارها الطالب، ثم الإنسانيات وتضم: تاريخ، جغرافيا، علم نفس، فلسفة، اجتماع..وغيرها، ثم العلوم وتضم: فيزياء، كيمياء، علوم أرض، أحياء..وغيرها، ثم الرياضيات، ثم الفنون وتضم: الرسم والموسيقى والدراما. المهم أن على الطالب أن يختار فى عامى البكالوريا، ثلاثا من المواد السابقة من المستوى المتقدم وثلاثا منها من المستوى العادى، على أن يكون معروفا أن الفرق بين المستوى المتقدم والمستوى العادى يعود إلى حجم المادة فقط. وإلى جانب الموضوعات الأكاديمية، هناك الموضوع البحثى.. فعلى الطالب أن يختار فى مواد التاريخ أو الجغرافيا أو الأديان المقارنة أو غيرها من الموضوعات التى لم تسبق له دراستها كتابة مقالة بحثية من حوالى 4000 كلمة، بالإضافة إلى كتابة مقال آخر بين 1200 و1600 كلمة فى موضوع فلسفة العلم، ويتم فيه الإجابة عن سؤال تحدده منظمة البكالوريا الدولية مثل: هل المعرفة نسبية أم مطلقة؟ ثم هناك برنامج cas ويعنى الإبداع والمبادرة والخدمة الاجتماعية، فعلى الطالب أن يقدم فى خلال سنتى البكالوريا، ما يفيد بنشاطه فى المجالات الثلاث. فقد يتطوع فى مشروع لمحو الأمية أو مساعدة أطفال الشوارع، فيحسب له فى مجال الخدمة الاجتماعية أو يقدم ما يفيد تعلمه الموسيقى أو الرسم فيحسب له فى مجال الإبداع، وإذا اشترك فى حملة لجمع التبرعات أو تنظيم نشاط بيئى فيحسب له فى مجال المبادرات... وفى التقييم تعتبر الدرجة 7 هى الدرجة النهائية التى يحصل عليها الطالب فى المواد الأكاديمية.. وتقسم على امتحانات ثلاث تبعا لمستوياتها المتقدمة أو العادية، ويضاف إليها ما يحصل عليه الطالب من درجات فى الأبحاث التى قدمها. وتلتزم مؤسسة البكالوريا الدولية بتقديم كتيب سنوى لكل الطلاب والمعلمين، يتضمن موضوعات الدراسة الإجبارى منها والاختيارى، وأيضا معايير التقييم، وكيفية حساب الدرجات. ثانيا: الثانوية الفرنسية: تبلغ المرحلة الثانوية ثلاث سنوات، تعتبر الدراسة فى السنة الأولى منها دراسة عامة، وتتشعب الدراسة منذ السنة الثانية إلى أربع شعب هى: الأدبى والعلمى والتجارى والتكنيكى (الفنى)، وبعد امتحان السنة الأولى ينقسم الطلاب إلى ثلاث فئات، الأولى منهم وهم المتفوقون، والذين يحق لهم اختيار نوع دراستهم التالية، وأصحاب الدرجات المنخفضة والذين يجبرون على دخول شعبتى التجارى أو الفنى تبعا لدرجاتهم، اما المتوسطون فإنهم مع أولياء أمورهم يدخلون فى مفاوضات مع مجلس الفصل والذى يضم جميع معلمى الفصل، ويتم فيه الرجوع إلى ملف الطالب والذى يحوى كل إنجازات وإنشطة الطالب منذ السنة الأولى الابتدائية، والدرجات التى يحصل عليها الطالب طوال شهور العام الدراسى، ويقوم المعلمون بتقديم المشورة والنصح للطلاب، حول الشعبة المناسبة لهم وقد ينصحونهم بإعادة السنة كلها أو بعض موادها فقط. وفى الشعبتين النظريتين (الأدبى والعلمى) يدرس الطلاب جميعا أربعة مواد أساسية هى: الرياضيات والفلسفة واللغة الفرنسية واللاتينية، ويختلف وزنها النسبى تبعا للشعبة التى يختارها الطالب. أما دخول الجامعة فيختلف من كلية إلى أخرى، إذ تتطلب كليات الإدارة العليا، والسياسة والاقتصاد، والفنية العسكرية أن ينجح الطالب فى مواد تحددها، ويقوم بدراستها على مدى عامين كاملين، أما كليات المعلمين العليا والفنون الجميلة والطب والعمارة، فتشترط نجاح الطلاب فى مسابقة يدرس موادها لعام كامل، أما كلية الآداب فتكتفى بمجموع درجات الطالب فى العامين الأخيرين من الدراسة الثانوية. ثالثا: ثانوية الصين: وهى مرحلة تبلغ ثلاث سنوات أيضا التعليم فيها بمصروفات فالمرحلة المجانية الوحيدة هى مرحلة التعليم الأساسى. وفى ظل «ماو تسى تونج» سنة 1960، تم تقسيم المرحلة الثانوية إلى نوعين من التعليم: التعليم الأكاديمى، والتعليم الفنى، وهو ما أطلق عليه سياسة «المشى على قدمين»، وفى ظل الثورة الثقافية تدهور التعليم الأكاديمى تدهورا كبيرا وأغلقت العديد من مدارسةولقد تم فى سنة 1985 تشكيل لجنة قومية لتطوير التعليم الصينى فى مرحلة ما قبل الجامعة، وهو التطوير الذى انعكس على النمو الاقتصادى غير المسبوق للصين أصبح الطلاب يدرسون فيها: اللغة الصينية والرياضيات والفيزياء والكيمياء والأحياء والجيولوجيا واللغات الأجنبية والتاريخ والجغرافيا والسياسة، والموسيقى والفنون التشكيلية والتربية الرياضية، وتدرس بعض المدارس إلى جانب تلك المواد المواد المهنية. وتحتسب الدرجة النهائية التى يحصل عليها خريج المدرسة الثانوية على أساس: 30% لامتحان نصف السنة، و40% لامتحان آخر العام، وال30% الباقية، لامتحانات موزعة على العام الدراسى كله، وتعتبر الشهادة الثانوية هنا شهادة منتهية لا تؤدى إلى الجامعة بالضرورة، إذ إن هناك امتحانا قوميا فى مواد اللغة الصينية والرياضيات واللغات الأجنبية، على الطلاب الراغبين فى دخول الجامعة اجتيازه بنسبة نجاح تعادل 60% من الدرجة النهائية، فى مختلف المقاطعات، إلا فى مقاطعة شنغهاى فعلى الطلاب اجتياز الامتحان القومى فيها بنسبة 80%، وعلى أساس درجات الطالب فى هذا الامتحان القومى تتحدد أنواع الكليات التى يمكن قبوله فيها. وتتشدد الدولة فى ضبط إجراءات ذلك الامتحان بمنتهى الحزم، بحيث يصبح الغش، فرديا كان أو جماعيا، أو التزوير أو أى شكل من أشكال التجاوز وغياب تكافؤ الفرص أمرا غير متصور على الإطلاق. هكذا يتقدم المتقدمون، فهل نتقدم معهم أم سنظل «محل سر»