مشكلات غريبة تواجه المصريين, الأغرب أنه لم يكن من المتصور أبدا أن تظهر مثل هذه المشكلات.. منها مثلا, أنبوبة البوتاجاز, تصور؟! وفي بلد يصدر الغاز الطبيعي للعالم! والأغلب أن سبب المشكلة في مصر هو ارتفاع مستوي المعيشة واقبال أعداد متزايدة من المصريين علي استخدام البوتاجاز بدلا من وابور الجاز والفرن البلدي والكانون. (1) الحقيقة التي لابد أن نعترف بها هي أن السبب الرئيسي في المشكلة هو نقص العرض عن الطلب, وليس صحيحا, كل ما يقال عن جشع التجار, أو محاولات البعض استغلال الظروف, وليس صحيحا أيضا لجوء بعض أصحاب مزارع الدواجن إلي استخدام أنابيب البوتاجاز في تدفئة مزارعهم.. فهذه كلها أمور مردود عليها. فليس من الوارد أبدأ, أن نقول إن السعر للأنبوبة الواحدة وصل إلي30 أو40 جنيها كما ذكرت الصحف فهذه في الغالب مبالغات هدفها تجسيد الصعوبات والمشاق التي تواجه المواطن لكي يحصل علي أنبوبة. أما حكاية مزارع الدواجن فهي أيضا مردود عليها فليس واردا في ظروف انفلونزا الخنازيروانفلونزا الطيور أن تزيد مزارع الدواجن, بل إن كل المؤشرات تبين انخفاض الاقبال علي الاستثمار في تربية الدواجن, فإذا كانت المزارع تلجأ إلي استخدام أنابيب البوتاجاز للتدفئة, وهي تفعل هذا في الواقع, فإن عدد المزارع المتناقص يستخدم أعدادا من الأنابيب لاتزيد علي المستخدم في الأشهر السابقة, وهذا معناه أن سبب الأزمة ليس هنا. إذا كانت القضية ليست في الجشع الزائد عن الحد, فالجشع المعقول مقبول, ولا في مزارع الدواجن, ولا في أي طفرات غير منظورة في الاستهلاك, فأين تكمن المشكلة إذن؟ (2) أغلب الظن, أن السبب بسيط للغاية, فنظرا للتحسن العام في انماط استهلاك الناس من عام إلي آخر, ازداد اقبال المواطنين علي استخدام البوتاجاز في عمليات الطهي, والاستحمام, والغسيل وإلي غير ذلك من الاغراض المنزلية. فقبل سنوات ليست بالبعيدة, كانت أعداد المنازل أو الاسر التي تستخدم البوتاجاز في الطهي قليلة, ثم حدث توسع انفجاري مع خروج العمالة المصرية للخارج, خاصة إلي الخليج وليبيا والعراق. وأدت زيادة الدخول إلي بناء المنازل بالطوب الأحمر والاسمنت والخرسانة المسلحة, وصارت فيها دورات مياه هكذا أصبح الطهي يعتمد علي البوتاجاز, وأصبح الحمام في الشتاء يعتمد عليه أيضا. وبدأ يختفي تدريجيا من المدن, والبنادر, ثم القري والنجوع والكفور, استخدام وابور الجاز والفرن البلدي, والكانون, وغير ذلك من الوسائل التي كانت تعتمد علي استخدام الحطب, أو أقراص الجلة.. فكل هذه الوسائل حاليا إما انها اختفت أو صارت في سبيلها إلي الاختفاء. ولا يعني هذا التحسن العام في أنماط السلوك, إلا أن هذه العادات الجديدة تجتذب أعدادا من الأسر تزداد كل عام, ولا يمكن أبدا لأي حكومة عاقلة أن تؤنب شعبها لأنه يترقي في سلوكياته وليس معقولا أن نطالب الناس بأن يظلوا يستخدمون الفرن البلدي والكانون ووابور الجاز, في حين أن الوزراء وأعضاء البرلمان الذين ينتخبونهم, وأهاليهم الذين أنعم الله عليهم برزق أوسع, توقفوا عن استخدام مثل هذه الأشياء في منازلهم داخل القري إلي جانب أن دخول الكهرباء وشيوع التليفزيون والدش في القري وما يذاع فيهما من إعلانات, يحرضان الناس وبإلحاح علي الترقي.. والتطور.. فليس من العدل أبدا أن نطالب أهالي القري بأن يظلوا كما هم في حين أنهم يرون أمامهم في التليفزيون عالما آخر في متناول أيديهم!! (3) هل أقول ان المدهش هو أن تحدث هذه الأزمة؟ لقد دخل الغاز الطبيعي في منازل كثيرة بالقاهرة الكبري, وفاضت الأنابيب عن اللزوم وكان المفروض أن تتوجه هذه الأنابيب الفائضة عن الاستخدام بالقاهرة الكبري إلي المحافظات والأرياف فماذا حدث؟ لا أريد أن أتهم حكومتنا بأنها لم تعمل أي حساب لأهالينا في الأرياف, واستكثرت عليهم أن ينعموا باستخدام شيء بسيط مثل البوتاجاز, فقررت مثلا أن تقلل العدد الاجمالي لأنابيب البوتاجاز علي أساس أن سكان القاهرة الكبري, والاسكندرية, وهم السكان ذوو الصوت العالي, لن يشعروا بأزمة, فماذا يحدث لو قرصنا إلي حد ما علي سكان البنادر؟ ثم هل من المعقول, أن تفاجئنا حكومتنا بأنها لم تعمل أي حساب للداخلين الجدد إلي سوق استهلاك البوتاجاز من أهالينا في القري الذين يتزايدون كل عام نتيجة التحسن العام في مستويات المعيشة؟ طبعا لأن حكومتنا علمتنا أنها تعرف كل شيء, وتحيط بكل شيء علما, فهي لم تعمل أي حساب لهؤلاء الجدد لأنهم من الفقراء الذين لايهتم بهم أحد.. وهذا هو السبب البسيط لهذه الأزمة. أغلب الظن أذن أن القصة ليست حكاية جشع مبالغ فيه, ولا حكاية مزارع دواجن, ولكنها حكاية نمو طبيعي في حجم الاستهلاك كل سنة, ولكن حكومتنا لم تعمل أي حساب لذلك! المدهش أنها تفعل هذا في حين أن الغاز الطبيعي يتم تصديره للخارج, بدلا من استخدامه في البيوت. لماذا لا تعمل حكومتنا لنا أي حساب؟ لأننا لانحاسبها فلو كنا نحاسبها لما جرؤت علي أن تفعل ذلك. [email protected]