في وقت نتحدث فيه عن بدء المراحل التنفيذية لدخول عصر الطاقة النووية. وفي وقت نشهد فيه قفزات هائلة في قطاع البترول والغاز والطاقة بأشكالها المختلفة, تفاجئنا أزمة أسطوانات الغاز للاستهلاك المنزلي فيشتد حول منافذ بيعها الزحام والضجيج والصخب والشجار. وتصبح تلك الأزمة الطارئة مثيرة للدهشة والتعجب والاستنكار والسخرية. كان البحث عن أسطوانة غاز قد أعيا الكثيرين من المواطنين فراحوا يستجيبون لأسعار خيالية فرضها المرابون والمتاجرون بالندرة الطارئة لسلعة بلغ الدعم الحكومي لها حدودا بعيدة. وفي الوقت الذي اشتد فيه الزحام علي أسطوانة للغاز كانت وزارة الكهرباء والطاقة تعلن ولو بشكل غير رسمي عن انتهاء الجدل الطويل حول الموقع المختار لأول محطة لتوليد الكهرباء باستخدام الطاقة النووية.. هذا التزامن المثير للعجب بين شواهد عصرين تفصل بينهما عشرات السنين: عصر البوتاجاز وعصر الطاقة النووية يشير إلي أن خطأ ما قد وقع ليعيد بعض المواطنين إلي عصر, بينما يتطلع آخرون إلي عصر جديد آخر.. وهذا الخطأ يثير سؤالا منطقيا هو: هل مصر يمكن أن تكون واحدة من البلدان التي يعاني بعض سكانها من أزمة في أسطوانات الغاز؟ المنطق والواقع يبعدان مصر عن هذه الدائرة, ولكن خطأ البعض وضعها في قلب الأزمة, وهو خطأ ينتمي لنوعية الأخطاء التي نراها كثيرا في إدارة المشروعات الصغيرة التي نظن أنها لاتحتاج إلي خبرات عتيدة. إن قضية توفير وتوزيع اسطوانات الغاز تعد بكل المعايير من المشروعات الصغيرة التي لاتتطلب جهدا خارقا ولاحكمة إدارية بالغة في دولة نجحت بامتياز في إدارة قضايا الطاقة الاستراتيجية, ولاتعاني شحا أو ندرة في أي شكل من أشكال الطاقة اللازمة للمنازل والمصانع وغيرها, وتعيد مشكلة اسطوانات الغاز إلي الذاكرة أزمة رغيف الخبز التي ظهرت ثم اختفت بسبب نفس النوعية من الأخطاء, ومن الواضح أننا نجحنا في توفير الكفاءات لإدارة المشروعات الكبري ونحتاج اليوم إلي أن نتوقف قليلا لنعيد النظر في الكفاءات اللازمة لإدارة المشروعات الأصغر والتي باتت تهدد قطاعات من المواطنين حينا وتثير السخط حينا آخر لدي قطاعات أخري منهم. قبل ثلاثة أعوام أعلن الرئيس حسني مبارك قراره الاستراتيجي بإقامة محطات لتوليد الكهرباء باستخدام الطاقة النووية النظيفة. ومنذ ذلك التاريخ ومصر تسير بخطي جادة ومدروسة لتحقيق هذا الهدف استنادا إلي إرادة سياسية قوية وقدرات فنية متميزة ومجموعات تعمل بلا ضجيج. وبرغم ما أحاط المشروع من صخب في الداخل وتخوف في الخارج واصلت مصر خطواتها ولم يغب عنها في هذا الضجيج الهدف الذي أعلنه الرئيس مبارك. .......................................................... والحقيقة أن الجهد المصري لإنجاز هذا المشروع العملاق قد اتسم بقدر كبير من النضج والوعي والفهم والدراسة لاستيعاب ومواجهة التحديات التي تواجه مثل هذا المشروع الاستراتيجي الذي يستغرق إنجازه علي الأقل عقدا من الزمن, فالتحديات التي تمثلها المخاوف الخارجية بدت أكثر سهولة في المواجهة من مشكلات الداخل حيث أساليب الإدارة والبيروقراطية والجدل الذي لايتوقف. فقد صاحب اختيار موقع المشروع جدل طويل لم يخل من لمز وغمز وتأويل من تيارات شتي, وعبر حوارات ممتدة نجح الحوار في الوصول إلي بر الأمان, وشيئا فشيئا اجتمع الجميع علي المشروع موقعا وأهمية. ويبدو لي اليوم وكأن المشروع قد حظي بإجماع الفرقاء الذين اختلفوا من قبل وأنهوا خلافاتهم بالحوار العقلاني المستنير, ونحن اليوم أمام واحد من التحديات الكبري, وهو أن ندخل عصر الطاقة النووية بكل ما يتطلبه ذلك من قدرات إدارية وفنية وعلمية ومالية بالغة التعقيد, وبكل التأكيد سوف ننجز هذا المشروع. فهل الدولة التي تستجمع طاقاتها من أجل مشروع بهذا المستوي من التعقيد الفني والتكنولوجي والإداري والعلمي يمكن أن تعجز عن توفير اسطوانات البوتاجاز بما يكفي حاجة المستهلك المصري؟ .......................................................... ومما يزيد الدهشة في النفوس والعقول معا أن الأزمة جاءت في قطاع حقق لمصر نقلة نوعية في توفير مصادر الطاقة البترولية بحيث أصبحت مصر مع إنجازاته مصدرا عالميا من مصادر إمدادات الطاقة, وأصبحت تمتلك من المقومات ما يجعلها مركزا إقليميا للطاقة بموقعها الجغرافي وقدراتها علي إنتاج البترول والغاز والتكرير وإسالة الغاز ومستودعات التخزين وخطوط النقل.. وهذا القطاع الذي ينمو بخطوات واسعة لم يتمدد ويتوسع عالميا علي حساب الاستهلاك المحلي, فقد بدأ ملحمة توصيل الغاز إلي المنازل والمصانع عام1981 بإمدادات وصلت حتي عام2000 إلي مليون وحدة. ومن عام2000 حتي عام2009 كانت إمدادات الغاز للمصانع والمنازل قد وصلت إلي2.5 مليون وحدة. وبلغ عدد الوحدات السكنية المستخدمة للغاز الطبيعي اليوم3.5 مليون وحدة سكنية في29 محافظة, وخلال العام الماضي وحده أضيفت60.000 وحدة سكنية بعد أن كان معدل النمو السنوي من قبل50.000 وحدة سكنية. ومن المقرر أن يتم توصيل الغاز هذا العام إلي750.000 وحدة سكنية جديدة. أما المصانع التي تم توصيل الغاز إليها حتي نهاية العام الماضي فقد بلغ عددها1438 مصنعا, بالإضافة إلي34 محطة توليد كهرباء تعمل اليوم بالغاز. ولعلنا هنا نشير إلي خطوة وصول الغاز الطبيعي إلي محافظات الصعيد من بني سويف وحتي أسوان.. وأيضا إلي مشروع خط الصعيد الذي ينقل غاز البحر المتوسط ودلتا مصر إلي جنوب مصر, وهو بكل المقاييس قفزة كبري في مجال التنمية في مصر لا يدرك أحد مغزاها, وحتي الآن تم تنفيذ6 مراحل هي: الأولي: الكريمات بني سويف وانتهت1999. الثانية: دهشور الكريمات وانتهت في يونيو2007. الثالثة: بني سويف أبو قرقاص وانتهت في يناير2008. الرابعة: أبوقرقاص أسيوط وانتهت في مارس2009. الخامسة: أسيوط جرجا وانتهت في يونيو2009. السادسة: جرجا أسوان وانتهت في نوفمبر2009. ويعد خط غاز الصعيد امتدادا للشبكة القومية للغازات التي يبلغ مجموع أطوالها930 كيلو مترا, وعلي امتداد هذا المسار فان الخط يعبر النيل عند ثلاثة مواقع, حتي إن الغاز وصل إلي كل محافظة من محافظات الصعيد, وحتي الآن وصل إلي145 ألف مواطن علي مسار الخط مرورا بمحافظات الفيوموبني سويف والمنيا وأسيوط وسوهاج وقنا والأقصر وأسوان, بالإضافة إلي33 مستهلكا صناعيا و667 عملا تجاريا, والمستهدف أن يصل إلي150 ألف وحدة سكنية عام2010 2011, بالإضافة إلي المصانع والمناطق الصناعية الجديدة. فهل بلد بمثل هذه القوة في هذا المجال يحتمل أن تمر به أزمة في البوتاجاز؟ أعتقد جازما أنها أزمة مرفوضة وغير مقبولة, ويجب أن ينتفض لها كل الجهاز الحكومي سواء علي المستوي المركزي أو المستوي المحلي, لأن إمكانياتنا وأوضاعنا في مجال الكهرباء والطاقة بشكل عام, وإنتاج الغاز بكل أشكاله يجب ألا تسمح بمثل هذه الأزمات حتي ولو كانت عابرة كأزمة شتوية جاءت لسوء التقديرات في حجم الاستهلاك أو حتي لأساليب البيع العشوائية لسلعة إستراتيجية مثل البوتاجاز. لقد حدث خطأ في تقدير الاستهلاك في وقت كان يجب فيه أن تفيض أنابيب البوتاجاز الموجودة في السوق المحلية نتيجة زيادة انتاج الغاز الطبيعي في كل محافظات الجمهورية وليس في القاهرة أو الإسكندرية وحدها, فالغاز طرق أبواب الدلتا والصعيد معا.. فماذا حدث؟ زاد الاستهلاك بشكل غير متوقع.. أليست هناك قياسات دقيقة في وقت تذهب فيه الأنبوبة الرخيصة والمدعومة لمجالات متعددة وليس لاستهلاكها الطبيعي؟ .......................................................... كان يجب علي وزارة البترول أن تقدم بدائل كثيرة ومتنوعة من الأنابيب وبأسعار مختلفة تلبي الاحتياجات المتعددة, ولابد وأن ندرك أن هناك ارتفاعا حقيقيا في مستويات المعيشة, فقد زاد عدد من يستخدمون اسطوانات البوتاجاز إلي14 مليون أسرة. وبرغم زيادة الإنتاج المحلي من البوتاجاز بنسبة20% فإن زيادة الاستهلاك التهمت الزيادة في الإنتاج. ومن غير المتصور أن يستمر دعم البوتاجاز وحده ليصل إلي13 مليار جنيه بما يعني أن كل أنبوبة في مصر تحصل علي دعم قدره50 جنيها.. ولم يعد مقبولا أن يتم توزيعها بهذا الأسلوب العشوائي وأن تتحول إلي تجارة رابحة للتجار والسماسرة والمهربين علي حساب الاقتصاد المصري.. إن هذه الأزمة قد تكون ضارة وغير مقبولة, ولكنها تستدعي وقفة موضوعية من الحكومة خاصة من قطاع البترول الذي يملك إمكانيات إيصال الأنبوبة للمنازل بعيدا عن السماسرة والتجار والوسطاء, كما يجب أن تدرك الحكومة أن التأخير في حسم قضية الدعم بكل أشكاله أصبح مصدرا لكل أشكال الأزمات التي لا تليق باقتصادنا أو مجتمعنا. مصر اجتازت أزمة الغذاء العالمي بأقل الأضرار وساعدت مواطنيها. مصر اجتازت الأزمة العالمية للاقتصاد واستمر اقتصادها في النمو. فلا يمكن لبلد بهذه الكفاءة والقدرة الاقتصادية أن يكون عرضة لأزمات مثل أزمة رغيف العيش أو أزمة البوتاجاز.. الحكومة عليها أن تضع قضية الدعم الذي يلتهم أكثر من95 مليار جنيه في مكانها الصحيح, ومن المفارقات الغريبة أن هذه المليارات التي خصصت لحل الأزمات قد أصبحت هي نفسها السبب الرئيسي للأزمات. فمتي نري أن الدعم أصبح حلا للأزمات وليس صانعا لها كما يحدث الآن؟!