وأنا أتابع (هيكل) في بعض أحاديثه كنت أشعر أن هناك حلقة مفقودة هو لا يذكرها، وأنا لا أدركها.. إذ أني أجده وهو يتحدث يقف في منزلة يهيأ لي أنها أكبر بكثير من المنزلة التي وضعه فيها التاريخ.. يضع نفسه دائما ليس في مصاف الوزراء ورؤساء التحرير بل في منزلة الزعماء، وحين يتذكر مقابلاته التي يكثر الحديث عنها نجد أنها في الغالب مقابلات مع الملوك ورؤساء الجمهوريات والزعماء الكبار ورؤساء الوزراء والشخصيات العظام ولا نجد فيها القدر المقنع للشخصيات الأقل شأنا مع أن مقابلاته ربما بالعشرات يوميا في الغالب. ظللت سنوات وسنوات ومازلت كذلك أتساءل لماذا ترفع كثيرا على الرئيس السادات وبنى لنفسه منبرا جلس فيه ينظر تحته للسادات، وظللت سنوات وسنوات ومازلت كذلك أتساءل لماذا زاد ترفعه بعد تولي الرئيس مبارك وبنى لنفسه منارة عالية مثل منارات الرهبان تفرغ فيها للحكمة و(التريقة) على قميص الرئيس المفتوح. وأنا أقدر مواهب هيكل.. أقدر صفاء ذهنه.. وقدرته على التحليل واستخلاص العبر والدروس، ويشدني في أحاديثه التي تتميز بالقدرة على الجذب والإقناع، وأعتبره كاتباً وصحفياً فذاً.. لكن في الوقت نفسه أجده يتجاهل كثيرا كونه شريكا في تحمل مسؤولية الهزيمة، ويلفت نظري بذكره التفاصيل الصغيرة والكبيرة التي قد لا تهم السامع والقارئ ولا تفيده ولا تضيف للموضوع شيئا، ولكن تهم هيكل نفسه فيما يبدو لارتباطها بالمقامات العالية والمكانة السامية، وأشعر في كثير من الأحيان وأنا استمع إليه وقد أكون على خطأ أنه يريد أن يقنعني بمكانته العالية أكثر من رغبته في إفادتي من تجاربه وإقناعي بأفكاره، ولا أنكر عليه السعي لبناء المكانة التي يتوق إليها، ولكن ليس بذلك الأسلوب المباشر القوي في الإلحاح على أذهان السامعين. تلك الحلقة المفقودة التي أشعر أنه يتكئ عليها في أغلب أحاديثه والتي قلت في بداية المقال إنه لم يذكرها ذكرها منذ أسبوعين في إحدى حلقات برنامجه الأسبوعي في قناة الجزيرة التي يروي فيها تجارب حياته، فقد تحدث عن ليلة ليلاء لم يقل صراحة إنه كان أثناءها ملك ملوك مصر، ولكن قال ذلك ضمنا من خلال كل ما رواه عن نفسه وعن غيره في تلك الليلة التي أعقبت مباشرة إلقاء الرئيس عبدالناصر خطاب التنحي الشهير بعد هزيمة 67 والتي نفهم مما قاله عنها إنه كان خلالها محور الارتكاز الذي اتجهت له كل الأفئدة والأعناق ليس فقط على مستوى الكبار داخل مصر بل وعلى مستوى الكبار في مختلف أنحاء العالم. لقد روى أولا كيف كتب بنفسه خطاب التنحي الشهير، وكيف أنه هو صاحب فكرة (النكسة) وكيف أنه لم يوافق على الشخصية التي كان عبدالناصر قد اختارها هو وعبدالحكيم عامر لخلافته وكيف أنه رفض أن يكتب اسم تلك الشخصية في الخطاب، وكيف أن عبدالناصر قد اقتنع واختار شخصية أخرى، ثم روى كيف أن عبدالناصر بعد أن ألغى خطاب التنحي ذهب لينام بعد أن أصدر أوامره للمسؤولين بأن هيكل هو وحده ولا أحد غيره كائناً من كان هو الذي يقوم مقامه بحيث لا يصدر أي شيء إلا بموافقته حتى من عبدالحكيم عامر أو حتى من الشخص الذي عينه لخلافته، وهذا في منتهى العجب، أي أنه تنحى ومع ذلك ظل هو القائد، وعين هيكل ليكون مكانه. أما ما حصل بعد ذلك في تلك الليلة الليلاء كما روى هيكل فهو ما يثير الدهشة البالغة فمن اللحظات الأولى بعد إلغاء عبدالناصر خطاب التنحي انهالت الاتصالات التلفونية على هيكل من كل حدب وصوب وهو جالس في شقته بجوار فندق شيراتون القاهرة.. التلفون (العمومي) الذي لا يهدأ في يده.. وعينه وأذنه على التلفون الخاص أو (الأحر) الذي بينه وبين عبدالناصر.. (يدير دفة الأمور) من خلال ردوده على الجميع.. وزير الإعلام يتصل به ويستأذنه في كل شيء.. وعبدالحكيم عامر يتصل به ليحصل على إذنه في إذاعة بيان يعلن فيه تنحيه هو الآخر. ولا يأذن له هيكل بل يستمهله بغرض كسب الوقت كما عبر.. وشعراوي جمعة وزير الداخلية يتصل به كل خمس دقائق ويضعه في صورة كل ما يحدث في الشارع.. وزكريا محيي الدين يتصل به ويحتج على توريطه بخلافة عبدالناصر.. وأنور السادات الذي كان رئيس مجلس الأمة آنذاك يتصل به المرة بعد المرة.. قبل أن يتجه لمجلس الأمة.. وبعد الوصول.. ويواصل الاتصال به حتى الفجر أو ربما حتى الصباح.. وحتى الرئيس عبدالناصر لا يتصل به مرة واحدة بل مرتين.. وتتوالى الاتصالات به من الداخل والخارج.. وحتى رؤساء الدول يتصلون به كما فعل الرئيس الجزائري هواري بومدين.. والغريب في كل هذا أنه (أي هيكل) هو الطرف المتصل به دائماً في تلك العملية ولم يرو ولا حالة اتصال واحدة قام بها هو لأي أحد عدا ما حصل بعد ذلك حين ذهب لمكتبه في الأهرام واتصل بالرئيس عبدالناصر. بصراحة.. لقد أشعرني هيكل وأنا استمع إليه خلال روايته لأحداث تلك الليلة الليلاء أنه كان خلالها هو ملك ملوك مصر، ومن خلال ذلك أدركت سر تلك الحلقة المفقودة التي كنت أفتقدها وأنا استمع لأحاديثه وأبحث عنها.. ولذلك أدركت لماذا وضع نفسه في تلك المكانة العالية فهو فيما يبدو مقتنع أن التاريخ قد وضعه فيها.. ومن حقه أن يقتنع.. ومن حقي أن أحاول معرفة السبب حتى يزول العجب.