من الطبيعي أن تختلف الآراء حول الإجابة عن السؤال: هل تراجع أوباما عن الموقف الذي أعلنه عن حل المشكلة الفلسطينية؟ ومن الطبيعي كذلك أن نشعر بالإحباط من تباطؤ حركة أوباما في هذا الاتجاه، ومن ليونة موقفه من سياسات حكومة “إسرائيل” وعنادها معه . . لكن منطق التحليل السياسي يفرض ألا نكتفي بوجه واحد من وجوه المشكلة محل التناول، بل إن نمسك بكل أبعادها . فليس هناك قرار سياسي أو حتى إنساني من صنع عنصر واحد بمفرده، لكن السلوك السياسي وكذلك الإنساني هو حصيلة تراكم مجموعة عناصر، تشترك معاً في صفة في النهاية ومن المهم النظر إلى كيفية صناعة القرار في حكومة أوباما، فمثلاً: 1) لدينا نموذج قريب حين اتخذ أوباما قراره بشأن استراتيجيته في أفغانستان . فقد استغرق الأمر ثلاثة أشهر من التفكير، وجمع المعلومات، والتحليل، وطرح البدائل والخيارات، والمناقشات في دائرة ضمت مسؤولين مختصين في حكومته، وبعض أصحاب الخبرة والمعرفة من خارج الحكومة . وقبل أن يستقر أوباما على استراتيجيته النهائية، كان يرأس بنفسه الجلسات، ويدير المناقشات، ويحرص على طرح الآراء، التي تتنافس وتختلف مع بعضها بعضاً، وكل ذلك يجري في مواجهته، من دون أن يبين في هذه المرحلة الأولية، الاتجاه الذي يميل إليه تفكيره ومن خلال ما توفره له هذه الطريقة من إنضاج التفكير، وتقوية الرؤية لديه، يكون قد استقر على قرار . 2) لم يكن كل رئيس من رؤساء أمريكا السابقين، يشارك بصورة كاملة في هذه العملية، بل كان يلقي بكثير من مراحلها، على عاتق مستشاره للأمن القومي، أو وزير خارجيته، وحدث نتيجة ذلك أن من بين هؤلاء من ضللوا رؤساءهم، ودفعوا الرئيس لاتخاذ سياسات بناء على معلومات ناقصة أو غير صحيحة . من هذه النماذج التي كشفت عنها الوثائق المعلنة، واقعة تكليف الرئيس نيكسون لوزير خارجيته هنري كيسنجر عقب اشتعال حرب ،73 بتوصيل رسالة إلى الزعيم السوفييتي بريجينيف، لإجراء مشترك من الدولتين لإنهاء الحرب، والتحرك معا نحو تسوية عادلة للقضية الفلسطينية . وبينما كان كيسنجر في منتصف رحلته إلى موسكو، قرر وهو في الطائرة عدم تسليم الرسالة، بغرض تفويت الفرصة على أي ضغط أمريكي على “إسرائيل” . وهناك واقعة تشجيع الكسندر هيج وزير الخارجية في حكومة ريجان، “إسرائيل” على غزو لبنان عام ،1982 وأخفى عن رئيسه ريجان أن الحرب وشيكة على لبنان . وعلى العكس من هؤلاء كان جيمس بيكر أحد القلائل الذين لم يضللوا رؤساءهم، وعرف بأنه يضع أمام الرئيس بوش الأب، الأمور في صورتها الصحيحة . 3) تبقي العناصر السبعة المؤثرة في صنع القرار، وهي التي يسمح لها بذلك الدستور وطبيعة النظام السياسي في الولاياتالمتحدة وهي: الرئيس، والكونجرس، والنخبة النشطة في مراكز البحوث، وجماعات المصالح، وقوى الضغط، والميديا، والرأي العام . وكلها صاحبة ضغوط مشروعة بحسب النظام السياسي، ومسموح لها بأن تلعب دورها، ولها توجهات متنافسة ومتعارضة أحياناً، وبعضها نافذ بقوة في دوائر صنع السياسات، وله مواقف مضادة لأوباما، وانتهاجه أي سياسة متوازنة، أو لأي خروج على تقليد التحيز ل”إسرائيل” . 4) يؤخذ في حسبان عملية تحديد السياسة تجاه منطقتنا، ذلك التعبير الذي سبق أن سمعته من مسؤول في الحكومة الأمريكية، أثناء عملي في واشنطن عام ،1997 وهو ما أسماه السكون العربي . يومها قال: عندما يتولى رئيس جديد في واشنطن، ويبدأ في رسم سياسته تجاه المنطقة، فإنه يفرز عناصر الضغط والتأثير النشط والمتحرك، وعادة ما يجد أمامه، عنصراً ثابتاً لا يتغير، ولا يتحرك، وليست له قوة ضغط، وهو السكون العربي . ما الذي يدفعه عندئذ إلى الخروج على السياسة التقليدية المتبعة تجاه العرب و”إسرائيل”؟ إن في أمريكا نظاماً سياسياً، يأخذ في اعتباره، ويضع ضمن أولوياته قدرة كل طرف على التأثير في العملية السياسية .هناك وحين نطرح الاجابة عن السؤال الذي عرضته في بداية هذا المقال: هل تراجع أوباما؟ لا نستطيع تجاهل كافة مكونات الصورة التي أمامنا، ونتوقف عند جانب منها، ونغفل بقية الجوانب . عندئذ يكون السؤال هو: هل لعب العرب دورهم في ساحة هذه العملية شديدة التعقيد؟ أو أنهم تركوا لغيرهم أن يلعبوه نيابة عنهم، وتكفيهم خصيصة الترقب والانتظار، في ما لم يعد يحتمل انتظاراً؟ إن الساحة هناك مفتوحة أمامهم بحكم طبيعة النظام السياسي الأمريكي، ليكون لهم دور فاعل وضاغط من أجل الدفاع عن مصالح طالما أن السياسة مصالح أولاً وقبل أي شيء . فلأي سبب هم ممتنعون؟ وهذا سؤال آخر ملحق بسابقه، إذا كان له جواب .