في كل مرة تُزهق فيها روح فلسطينية بريئة، ترفرف فوق الدم رايةٌ قديمة كُتب عليها «الوعد»، ويُستخرج من غبار التاريخ نصٌّ توراتي يُلوى عن موضعه لتبرير الجريمة. منذ قيام إسرائيل، كانت التوراة سلاحًا لا يقل فتكًا عن المدفع، بل كانت المدفع الأول الذي أطلق الرصاصة الأولى في الوعي قبل أن تُطلق في الواقع. هكذا تحوّل الكتاب المقدّس من ميثاقٍ بين الإنسان وربّه، إلى وثيقة استعمارية تمنح الغزاة تفويضًا سماويًّا بالقتل والاقتلاع. إن أخطر ما فعلته الحركة الصهيونية أنها نزعت القداسة عن التوراة بوضعها في خدمة السياسة. لم تعد الكلمة الإلهية صوتًا للهداية، بل صارت مشروعًا لإنتاج أسطورة شعبٍ مقدّسٍ لا يُسأل عمّا يفعل. في كل سطرٍ من خطابهم تجد دمًا مبرّرًا بنبوءة، ومجزرةً مغسولة بآيةٍ محرّفة، وتاريخًا يُعاد كتابته ليبدو وكأنه قدرٌ لا فكاك منه. في هذا التزوير، اختُزل الإله إلى راعٍ قومي، لا يرى في البشر إلا درجاتٍ من «الأغيار»، ولا يعرف من العدالة إلا ما يخدم «شعبه المختار». إن التوراة التي استُخدمت لتصوير إسرائيل كأمة من نور، صارت هي ذاتها النفق المظلم الذي يبتلع كل ضوءٍ من العدالة. حولوا موسى عليه السلام إلى زعيمٍ عسكري، ويشوع إلى فاتحٍ بالسيف، والأنبياء إلى مخططين استراتيجيين لمشروعٍ استيطانيٍّ طويل الأمد. لم يتركوا للسماء دورًا إلا أن تُبارك الذبح، ولم يتركوا للإنسانية إلا أن تنحني أمام جنون الأسطورة. كل قراءةٍ للتاريخ الإسرائيلي الحديث تُثبت أن «نبوءة الدم» لم تكن نبوءة دينية، بل خطة سياسية بُنيت على أنقاض الأخلاق. من احتلال فلسطين إلى حصار غزة، من مذابح دير ياسين إلى اغتيال الأحلام في القدس، كلها تُقدَّم داخل إسرائيل كتحقّقٍ للنبوءة لا كجريمة ضد الإنسانية. وهنا تكمن خطورة الدم حين يُخلط بالحبر، والقتل حين يُغلف بورق مقدس. في القمة الأخيرة بشرم الشيخ، حين تحدّث القادة عن الأمن الإقليمي، كانت إسرائيل تُعيد تلاوة «التوراة السياسية» بلغتها الجديدة: لغة التحالفات، والتطبيع، والمصالح المشتركة. لم يعد الدم الفلسطيني يثير الغضب، بل صار مادةً للمساومة. وهكذا اكتملت النبوءة: أن يتحول الرماد إلى مادةٍ للتفاوض، والحق إلى بندٍ في جدول الأعمال. لكن الرماد لا ينسى النار. فكلما حاولوا دفن الحقيقة تحت الركام، اشتعلت من جديد في الوعي العربي روح المقاومة، تلك التي تعرف أن نبوءة العدالة لا تُكتب بالدم، بل تُولد من رحم الصبر والإيمان. إن معركتنا مع إسرائيل ليست معركة حدودٍ فحسب، بل معركة معنى: من يملك تفسير التاريخ، ومن يحتكر صوت الإله. وما دام فينا من يكتب ويفضح ويؤمن أن الكلمة أقوى من الرصاصة، فلن يتحقق وعد الدم، بل وعد الوعي؛ الوعي الذي يرى في التوراة المنحرفة كتابًا زائفًا يبرّر الجريمة، لا رسالةً سماوية تُعلّم الرحمة. ذلك هو الفارق بين من يعبد الله، ومن يعبد النص حين يخدم ذاته. [email protected]