لحظة ميلاد أى من الثلاثة كيانات تكاد أن تكون نسخة طبق الأصل من سابقتها ؛ فالولاياتالمتحدة بدأت كحكاية تصديق للنبوءة بأنها أرض ميعاد تزدحم بأنهار من لبن وعسل لكن يسكنها أناس لا يعرفون ديانة سماوية فحقت استباحة دمائهم وممتلكاتهم، ولتكن البداية هى إحتلال مساحة من اراضيهم وإقامة سور يعزل الموقع المغتصب وليسمى «مستوطنة» ومن فتحات فى جدار «المستوطنة» يتم اغتيال أى معترض على الدعاة القادمين من اجل هداية السكان الأصليين؛ واقناعهم بأن سرقة بلادهم هو قرار سماوي!! وتكاثرت المستوطنات لتصير متصلة ولتكون هى التى تأسس عليها هذا الكيان الذى تقدم بالقتل أولا ثم بالتوسع؛ مع حرص بالغ على التقدم بالعلم . وإذا نظرنا إلى ميلاد إسرائيل فسنجد القرار السياسى لتأسيسها قد صدر من ملحدين عظام، سواء هرتزل أو من أصدر وعد بلفور، ولكن كانت كلمة «أرض الميعاد» هى الشفرة التى يمكن بها تحريك عشرات من عواجيز الديانة اليهودية ليقضوا ما بقى لهم من عمر بجانب أرض الهيكل، ومن بعد تأسيس عدد من ملاجئ العجزة بدأت أفواج الاحتلال تتزاحم لتولد دولة «إسرائيل» ليؤسسها ملحد هو بن جوريون الذى لم يكن يمل من تصفح التوراة ليستخرج منها ما يساند دعوته السياسية وليؤازره فى ذلك عدد من الذين لا يخفون عدم احترامهم لأصول الدين اليهودي، ولكنهم يجبرون غيرهم على اتباع ما يفرضه الحاخامات؛ فالسيجارة لم تكن تغادر فم جولدا مائير وعدم ثقتها فى ان التوراة كتاب مقدس كانت مجال احاديثها مع المقربين منها؛ ولكن التوراة لم يكن يغادر مكانه من فوق مكتبها ؛ والكل قد قرأ تصريح إسحق رابين الذى قال فيه «لو كنا نطبق التوراة فعلا لما زادت مساحة إسرائيل عن نصف مساحة مدينة تل بيب» قال رابين ذلك فى مواجهة من عارضوه عندما قرر توقيع اتفاق سلام مع ياسر عرفات. ومن تتبع نمو إسرائيل سيجد أنها ولدت وشبت من خلال ثقوب أنظمة عربية لم تمنح امتها فرصة لنمو علمى حضارى متواصل ، وضمنت إسرائيل لنفسها مستقبلا كوكيل استعمارى للدول الكبرى ، بعد أن تسللت إلى خريطة الأهداف الخفية لقوى الاستعمار القديم ، فوضعها كسكين فى خصر العالم العربى، وأهدى برنارد لويس دارس التاريخ العثمانى لكل من أمريكا وإسرائيل قصص تحويل الخلاف بين المذاهب الإسلامية إلى حرب ضروس بين اصحاب المذاهب المختلفة ؛ فإذا كانت الولاياتالمتحدة قد توحدت بتاسيس احترام كل المهاجرين إليها لعقائد بعضهم البعض؛ وأسست ولاء سكانها لعلم الدولة؛ وإذا كانت إسرائيل قد صهرت ابناء جنسيات وثقافات متباينة ومختلفة فى لغة تم إحياؤها من زمن قديم ؛ وكان جيش الدفاع الذى لا تبخل عليه الولاياتالمتحدة بكل جديد فى التسليح هو البوتقة التى تنصهر فيها شخصية من يهاجر او يولد على ارض إسرائيل. ومن براثن الحرب العراقية الإيرانية ؛ ومن بعدها حرب طرد الروس من افغانستان اشتعل اتون تقسيم العرب إلى طوائف تاسيسا على ما قدمه برنارد لويس من دراسات تهيئ لمزيد من الفرقة التى يمكن ان تتحول إلى انهار من دم . وكان الأمين على تلك الفرقة بول برايمر أول سفير لامريكا ببغداد وهو من وضع اسس المحاصصة فى الدستور العراقى، واسس للفتنة المذهبية بين السنة والشيعة. ومن أطلال رماد التخلف باسم الدين فى افغانستان جاء تنظيم القاعدة؛ ولن أنسى غلاف مجلة عربية تصدر فى لندن؛ وعليه صورة لجورج بوش الأب وتصريح له يقول «جئت لأرفع راية الإسلام فى وجه الاحتلال الروسى الملحد» وتصادف ان الراحل أحمد حمروش رئيس تحرير روز اليوسف الأسبق ركب طائرة باكستانية وجاء مقعده بجانب أسامة بن لادن إبان تعاون بن لادن مع المخابرات الأمريكية, وكتب حمروش مقالا يحذر فيه السادات من التمادى فى تأييد تلك الحرب باسم الدين. وطبعا كان السادات غرق تماما فى المستنقع الأمريكى إلى ان جاءه الاغتيال على يد فرع من فروع الذين حاربوا معركة الولاياتالمتحدة فى أفغانستان. ومن بقايا تنظيم القاعدة وبخبرة اليأس الذى بلغ الحلقوم عند أهل العراق بعد شقه بسكين المذهبية جاء أبو بكر البغدادى ليؤسس بخبرة علمية تركية وتمويل قطرى ما يسمى الدولة الإسلامية. وبدأ التنظيم بتمويل أتيح له بالاستيلاء على المال من بنوك البصرة ؛ ثم توسع ليقطع بعضا من أرض العراق، ويتوسع أكثر ليقطع جزءا من أرض سوريا ، مطابقا لفكرة المستوطنات القادمة من تأسيس الولاياتالمتحدة وإسرائيل، وكان الذبح هو وسيلة إشاعة الرعب، فضلا عن استخدام قشور المذاهب التى تدعى الانتماء للإسلام ، مع تجنيد حواف المدن الاوربية التى يقطنها كثير من أبناء المغرب العربى الذين هاجروا عبر عقود إلى اوروبا بحثا عن لقمة وبيت وتمسكوا بقشور التعاليم التى وصفت بانها إسلامية، بينما هى عثمانية المنشأ، وهل لقارئ محترف أن ينسى ما فعله العثمانيون فى البلاد التى احتلوها ، ولعل رواية «جسر على نهر درينا» التى أتمنى إعادة إصدارها لنرى فظائع تتطابق مع ما جرى فى سجن ابوغريب العراقي. ولن أنسى ما وصفه لى صديقى شريف بسيونى استاذ القانون ما شاهده فى البوسنة عندما عينه د. بطرس بطرس كان صديقى أستاذ القانون الشهير شريف بسيونى المصرى الجذور الإمريكى الجنسية يذكرنى بأن هناك مسافة بين العدالة الحقة وبين القانون، و روى لى الحكاية التى لا ينسينى تداهم الأحداث تفاصيلها، الحكاية تبدأ من هندى أحمر تعرض لاغتصاب أرضه بواسطة «مستوطنين بيض»، وعندما أراد إخلاءهم من أراضيه قيل له «أمامك المحكمة»، ولما كانت المحكمة بعيدة بمسافة لايستهان بها؛ امتطى الرجل حصانه ليركض إلى موقع المحكمة، لكن الحصان تعثر فى وسط المسافة وانكسرت ساقه ، وراح الحصان يبكى ألما، ولما كان يبعد كثيرا عن أى طبيب يعالج كسور أرجل الخيل ، لذلك _ ورفقا بالحصان _ اطلق الهندى الأحمر رصاصة الرحمة على الحصان، وما إن وصل سيرا على الأقدام إلى المحاكمة, حتى وجد وفد من بالمستوطنة التى أقيمت على أرضه وهم من مهاجرى أوروبا ، قد جاءوا يشكونه للقاضى ، لانه أطلق النار على طائر نادر فى منطقة محرم فيها صيد الطيور، وحاول الهندى الأحمر إقناع القاضى بانه لم يطلق النار إلا على حصانه الذى انكسرت ساقه، هنا طالبه القاضى إثبات أنه قتل حصانا ولم يقتل طائرا. وهكذا خسر الهندى الأحمر أرضه وحصانه بحكم القانون الذى طالبه بإثبات أن حصانه المقتول لم يكن طائر نادر. وهذا تتسع المسافة بين «نصوص بعض القوانين» وبين مضمون العدالة. والمدهش ما يعانى منه شريف بسيونى من ألم علمى بسبب أنه هو صاحب فكرة «المحكمة الجنائية الدولية» وهى لم تحاكم حتى كتابة سطورى تلك أمريكيا واحدا، سواء ممن أسسوا معسكر تعذيب جوانتنامو أو مجرمى التعذيب فى سجن ابوغريب العراقي. أمريكا وإسرائيل وداعش يتطابقون فى كيفية النشأة, ولعل من حسن حظ الكون أن اسقطت مصر تأسيس داعش على أرضها بثورة الثلاثين من يونيو ؛كبداية لاسقاط داعش من الخريطة العربية؛ ولم تكن بصيرة الجيش المصرى غائبة عن رؤية المنتبه جمال عبد الناصر لوحش خلط الدين بالسياسة ، ولم تكن بصيرة المصريين التى أسقطت دولة المتأسلمين بطردهم من حكم مصر، سوى هدية مصرية للعالم أجمع. وهنا لابد أن أذكر من علمنى كيف أنظر إلى الحقائق المصرية البسيطة، وهو استاذى الشاعر صلاح عبد الصبور الذى ضحك ذات صباح ونحن نزور اهرام الجيزة فوجدنا طابورا من النمل يسير الهوينا بجانب بقايا سندويتش فول متروك على حجر من احجار الهرم, وعلى الحجر مرسوم قلب بداخله سهم وعليه اسمان ِ«فاضل وفتحية» فقال الشاعر يمكنك أن تلوم كلا من فاضل وفتحية لأنهما تركا بقايا سندويتش الفول ، ويمكنك أن تطلب من وزارة الصحة مقاومة طوابير النمل ، وقبل أن تغضب كثيرا عليك بالاتعاد قليلا عن الهرم ؛ لترى معجزة مصرية ؛ فمن بنوا الهرم كمعجزة لا نهاية لعظمتها؛ هم بالتأكيد أجداد فاضل وفتحية اللذين تركا بقايا سندويتش الفول لطابور النمل. ترى هل تنظر لنفسك بعيون من يتجاهل عظمة الأهرامات ويغضب لمشاهدة طابور النمل، أم تدق على باب إبداعك لترى هرما جديدا يجب أن نشيده معا وهو هرم الحياة اللائقة لعموم المصريين. لمزيد من مقالات منير عامر