منذ أن كتب الفرعون المصري أول حرف على جدران المعابد الفرعونية، ومصر تقدم للعالم أقدم وأوضح نموذج للدولة المنظمة، بجيش يحميها، وحدود تصونها، وهوية راسخة تجعلها باقية على مر العصور، وتعلم الدنيا أن الحضارة ليست حجارة صامتة، بل روح قادرة على البقاء ومواجهة الرياح، لم تكن مصر يوما ساحة مستباحة، بل كانت عبر التاريخ بوابة الشرق ومفتاح الجنوب ودرع الشمال، ومن يقرأ تاريخها يجد أنها عاشت الأزمات، لكنها لم تعرف الانكسار قط. في ثورة 19 خرج الطلاب والعمال والفلاحون يهتفون للحرية ويكتبون أول بيان جماعي ضد الاحتلال، لتؤكد مصر أن الصوت يمكن أن يكون سلاحًا كالبندقية، ثم جاء العدوان الثلاثي في 56، فاعتقد المعتدون أن مصر ستستسلم أمام قوى كبرى اجتمعت عليها، فإذا بقرار التأميم وصمود بورسعيد يعلنان أن السيادة لا تُشترى ولا تُباع، وفي عام 67 جرحت الأمة جرحاً عميقاً، لكن الجرح صار وقوداً، فانطلقت الإرادة الشعبية والعسكرية معاً لتصنع نصر أكتوبر في 73، وهو النصر الذي لم يكن عسكريا فقط، بل كان انتصاراً نفسياً أعاد للأمة ثقتها بنفسها. واليوم تقف مصر أمام تحديات من نوع آخر، تختلف أدواتها لكنها لا تقل خطورة، لم يعد العدو يقتصر على جندي يعبر الحدود، بل أصبحت التهديدات مزيجاً من ضغوطات اقتصادية عالمية، وصراعات إقليمية، ومخططات تستهدف اقتلاع شعوب من أرضها، ومن أخطر ما واجهته مصر في الفترة الآخيرة فكرة التهجير القسري للفلسطينيين من غزة إلى سيناء، تلك الخطة التي حاول البعض تمريرها تحت شعار " الحل الإنساني"، بينما هي في حقيقتها محاولة لطمس هوية شعب وزعزعة استقرار دولة، ومن ثم جاء الموقف المصري صريحاً حازماً: لا تهجير ولا وطن بديل، لم يكن ذلك مجرد تصريح إعلامي، بل سياسة فعلية ترجمتها مصر بتحركات دبلوماسية فاعلة، وبتنسيق عربي ودولي، وبإصرار على أن القضية الفلسطينية جزء لا يتجزأ من أمنها القومي، لقد أفرغت مصر هذه الخطة من مضمونها، وأثبتت أن الكلمة حين تكون صادقة تصبح جداراً يحمي كما يحمي السلاح. وعلى صعيد الاقتصاد، خاضت مصر معركة صعبة في الإصلاح المالي وتحرير سعر الصرف، لم يكن الطريق سهلاً، بل صاحبه ارتفاع في الأسعار وضغوطات على حياة المواطن اليومية، لكن من منظور استراتيجي، كان لا بد من هذا التحول لتصحيح اختلالات تراكمت عبر عقود، ثم جاءت المشروعات القومية الكبرى؛ من شبكة الطرق والمدن الجديدة إلى محطات الكهرباء العملاقة، لتمنح مصر قاعدة صلبة لمستقبلها الاقتصادي، قد يختلف الناس حول حجم الاستفادة المباشرة الآن، لكن المؤكد أن هذه المشروعات وضعت أسساً لبنية قوية قادرة على الصمود في وجه الأزمات العالمية، وهو ما ظهر خلال جائحة كورونا وأزمات الغذاء والطاقة التي عصفت بالدول كافة. ومن موقعي كأستاذة جامعية متخصصة في اللغة العربية والتربية، أجد أن ما يلفت النظر ليس فقط القرارات السياسية أو الاقتصادية، بل الخطاب ذاته، فاللغة السياسية في مصر لم تعد خطاباً شعاراتياً كما كان في بعض المراحل، ولا هي لغة خاوية كما نرى في كثير من الدول، بل صارت أقرب إلى خطاب متوازن يجمع بين الصراحة والرمزية، حين تقول القيادة السياسية: " لن نقبل بالتهجير"، فهي تستخدم أبسط تراكيب اللغة وأكثرها وضوحاً، لكنها تحمل في طياتها موقفاً سياسياً لا يقبل المساومة، وهذا النوع من التعبير يذكرنا بما ندرسه في البلاغة: الجملة التي تبدو يسيرة في ظاهرها، لكنها غنية بالدلالات في باطنها. فاللغة، كما علمنا التراث العربي، ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل أداة للسلطة والتأثير، في ثورة 1919 كانت الهتافات شرارة، وفي حرب 1973 كان شعار " الله أكبر" قوة نفسية تزلزل العدو، واليوم حين تقول مصر: " لا وطن بديل" ، فإنها تختصر تاريخاً طويلاً من المقاومة في كلمات معدودة، ومن ثم يتجلى أن الكلمة يمكن أن تكون سيفاً لا يقل أثرا عن المدفع. والحق أن اللغة في السياسة ليست ترفاً، بل أداة قوة ناعمة، كما قال المتنبي: إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ فمصر وهي تخاطب الداخل والخارج، تدرك أن الكلمة قد تعيد رسم خرائط بقدر ما تفعل المدافع. أما على الصعيد الداخلي، فلا يمكن إنكار أن مصر تواجه ضغوطاً معيشية قاسية أثرت على فئات كبيرة من الشعب، لكن من اللافت أن الدولة لم تغلق الباب أمام الأصوات الناقدة، عودة إعلامي بحجم باسم يوسف إلى شاشة مصرية، بعد سنوات من الغياب والمعارضة، ليست تفصيلاً صغيراً، بل إشارة إلى أن الدولة أصبحت أكثر ثقة في ذاتها، قادرة على استيعاب النقد دون أن تهتز، هذا لا يعني أن النقد مفتوح بلا قيود، لكنه يعني أن ثمة إدراكاً بأن التنوع في الأصوات قوة، لا تهديداً. وهكذا، حين ننظر إلى المشهد العام نجد خيطاً واحداً يربط الماضي بالحاضر: ثورة 1919 التي أثبتت أن الشعب قادر على فرض إرادته، وعدوان 1956 الذي أثبت أن مصر لا تُبتلع، ونصر 1973 الذي أثبت أن الهزيمة ليست قدراً محتوماً، وصولاً إلى موقفها الراهن الذي أثبت أنها لن تفرط في أرضها ولن تسمح بتفكيك جوارها، في كل محطة، يتجدد الدرس ذاته: أن هذا الوطن قد يتعثر، لكنه لا يسقط. في النهاية، إن مصر اليوم ليست خالية من الأزمات، لكنها أيضاً ليست بلا رؤية، فهي بين إرثها التاريخي الممتد وواقعها المليء بالتحديات، تظل قادرة على رسم مسارها الخاص، قد يختلف المؤيد والمعارض في التفاصيل، لكنهما يلتقيان في حقيقة واحدة: أن مصر، بتاريخها العميق وقيادتها الراهنة وشعبها الصبور، ستبقى الرقم الأصعب في معادلات المنطقة، ولن تسمح لأي عدو، قديماً كان أو حديثاً، أن يعبث بمستقبلها.