مختار جمعة: منطقتنا تتعرض لهجمات غير مسبوقة لطمس الهوية.. والأزهر حصن منيع في المواجهة    علمي وأدبي.. جدول امتحانات الصف الأول الثانوي 2025 بمحافظة مطروح    رئيس وزراء باكستان: مستعدون للتحدث بشأن السلام مع الهند    موقف وسام أبو علي من مباراة الشياطين الحمر والبنك الأهلي بالدوري الممتاز    إصابة 10 أشخاص في حادث تصادم 5 سيارات أعلى الطريق الأوسطي    نجوم العالم يتألقون على السجادة الحمراء في اليوم الثاني لمهرجان كان (صور)    قوافل حياة كريمة الطبية تجوب قرى الفرافرة وتقدم خدماتها المتكاملة ل871 مواطنًا بالوادي الجديد    الخارجية الليبية: ننفي شائعات إخلاء السفارات والبعثات    لابيد: نحن على بُعد قرار وزاري واحد للتوصل لاتفاق تبادل    حملة موسعة لإزالة التعديات على أراضي الدولة والزراعة بقنا ضمن الموجة 26    بعد وصول أول قطار.. مواصفات قطارات مترو الخط الأول الجديدة    ما الفرق بين التبرع بصك الأضحية للأوقاف عن غيرها؟ المتحدث الرسمي يجيب    راغب علامة يطرح أغنيته الجديدة "ترقيص"    "مطروح للنقاش" يسلط الضوء على ذكرى النكبة    ويتكوف يرفض اتهامه بمحاباة قطر ويلتمس العذر لنتنياهو    استعدادًا للصيف.. وزير الكهرباء يراجع خطة تأمين واستدامة التغذية الكهربائية    تحديد فترة غياب مهاجم الزمالك عن الفريق    التأمينات الاجتماعية تقدم بوكيه ورد للفنان عبدالرحمن أبو زهرة تقديرًا لمكانته الفنية والإنسانية    ضبط سيدة تنتحل صفة طبيبة وتدير مركز تجميل في البحيرة    الإعدام شنقا لربة منزل والمؤبد لآخر بتهمة قتل زوجها فى التجمع الأول    تيسير مطر: توجيهات الرئيس السيسى بتطوير التعليم تستهدف إعداد جيل قادر على مواجهة التحديات    كيف تلتحق ببرنامج «سفراء الذكاء الاصطناعي» من «الاتصالات» ؟    إحالة 3 مفتشين و17 إداريًا في أوقاف بني سويف للتحقيق    أمام يسرا.. ياسمين رئيس تتعاقد على بطولة فيلم «الست لما»    كلية الحقوق تختتم فعاليات اليوبيل الذهبي بأمسية فنية لكورال الجامعة    لن تفقد الوزن بدونها- 9 أطعمة أساسية في الرجيم    الاحتلال الإسرائيلى يواصل حصار قريتين فلسطينيتين بعد مقتل مُستوطنة فى الضفة    محافظ الجيزة يكرم 280 عاملا متميزا بمختلف القطاعات    وزير السياحة يبحث المنظومة الجديدة للحصول على التأشيرة الاضطرارية بمنافذ الوصول الجوية    زيلينسكي: وفد التفاوض الروسى لا يمتلك صلاحيات وموسكو غير جادة بشأن السلام    فقدان السيطرة.. ما الذي يخشاه برج الجدي في حياته؟    موريتانيا.. فتوى رسمية بتحريم تناول الدجاج الوارد من الصين    تصل ل42.. توقعات حالة الطقس غدا الجمعة 16 مايو.. الأرصاد تحذر: أجواء شديدة الحرارة نهارا    محسن صالح يكشف لأول مرة تفاصيل الصدام بين حسام غالي وكولر    افتتاح جلسة "مستقبل المستشفيات الجامعية" ضمن فعاليات المؤتمر الدولي السنوي الثالث عشر لجامعة عين شمس    محافظ الإسكندرية يشهد ندوة توعوية موسعة حول الوقاية والعلاج بديوان المحافظة    "فشل في اغتصابها فقتلها".. تفاصيل قضية "فتاة البراجيل" ضحية ابن عمتها    "الصحة" تفتح تحقيقا عاجلا في واقعة سيارة الإسعاف    أشرف صبحي: توفير مجموعة من البرامج والمشروعات التي تدعم تطلعات الشباب    تحت رعاية السيدة انتصار السيسي.. وزير الثقافة يعتمد أسماء الفائزين بجائزة الدولة للمبدع الصغير في دورتها الخامسة    "الأوقاف" تعلن موضع خطبة الجمعة غدا.. تعرف عليها    رئيس إدارة منطقة الإسماعيلية الأزهرية يتابع امتحانات شهادة القراءات    عامل بمغسلة يهتك عرض طفلة داخل عقار سكني في بولاق الدكرور    إزالة 44 حالة تعدٍ بأسوان ضمن المرحلة الأولى من الموجة ال26    مسئول تركي: نهاية حرب روسيا وأوكرانيا ستزيد حجم التجارة بالمنطقة    فرصة أخيرة قبل الغرامات.. مد مهلة التسوية الضريبية للممولين والمكلفين    كرة يد.. مجموعة مصر في بطولة أوروبا المفتوحة للناشئين    فتح باب المشاركة في مسابقتي «المقال النقدي» و«الدراسة النظرية» ب المهرجان القومي للمسرح المصري    شبانة: تحالف بين اتحاد الكرة والرابطة والأندية لإنقاذ الإسماعيلي من الهبوط    تشكيل منتخب مصر تحت 16 سنة أمام بولندا فى دورة الاتحاد الأوروبى للتطوير    جهود لاستخراج جثة ضحية التنقيب عن الآثار ببسيون    ترامب: الولايات المتحدة تجري مفاوضات جادة جدا مع إيران من أجل التوصل لسلام طويل الأمد    رفع الحد الأقصى لسن المتقدم بمسابقة «معلم مساعد» حتى 45 عامًا    وزير الخارجية يشارك في اجتماع آلية التعاون الثلاثي مع وزيري خارجية الأردن والعراق    أمين الفتوى: لا يجوز صلاة المرأة خلف إمام المسجد وهي في منزلها    أيمن بدرة يكتب: الحرب على المراهنات    جدول مواعيد مباريات اليوم والقنوات الناقلة    حكم الأذان والإقامة للمنفرد.. الإفتاء توضح هل هو واجب أم مستحب شرعًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



''لوكاندة الدراويش'' سكن الوافدين في ''حب آل البيت'' (صور)
نشر في مصراوي يوم 26 - 02 - 2014


نوريهان سيف الدين وإشراق أحمد:
أذن المنادي باقتراب الموعد، خطى تعرف طريقها لأعوام متتالية، جمع يلتقي بلهجاته المتعددة، جلباب صعيدي يغلب على الأجساد السائرة في صحبة، والجالسة في خلوتها، عمائم خضراء وبيضاء تكلل الرؤوس، ألسنة تتمتم بذكر الله ونبيه المصطفى، تتأرجح السبحة بين أيدي أغلبهم، منهم المتعلم والأمي، بائع، فلاح، تربوي، رجل أعمال وغيرهم، كلٌ يعبر عن ''المحبة''، بكلمة، دمعة، صقفة في حضرة منشد، وقبلة تتحاشاها يد شيخ لقبوه ب''سيدنا'' لعلو مقامه بينهم.
مقصد الغريب سكن أو فندق يأوي إليه ساعاته وأيامه، بينما ''الخدمة'' كما يلقبونها مكانهم وسبيلهم لسنوات، القائمون عليها يُعرفون أنفسهم ب''خدام الضيوف''، فيما يشبه ''اللوكاندة'' من دكاكين وخيام وشوادر بسيطة أشيائها، اختلفت سماتهم ومواطن قدومهم، وتشابهوا جميعًا في مبدأ ''الناس موتى وأهل الحب أحياء''، وجل المحبين لديهم ''آل البيت'' وجوهرته ''سيدنا الحسين''.
شارع يفصل عن ''المشهد الحسيني'' بساحة المسجد، أجساد تتلاحم في الطرقات تخفي معالمها، شوادر يتجلى ظهورها مع دخول شارع ''الجمالية''، ''غرف'' هي في غايتها، يسكن إليها الوافدون للاحتفال بمولد ''الحسين''، منها ما يصنعه أصحابه بين أضلاع خشبية وقماش خيام، يبيتون بها لأكثر من ثلاثة أيام هم مقصد الآخرين باعتبارهم أساس الاحتفال حتى ''الليلة الكبيرة''- آخر ليال المولد، البعض من أهل المناطق القريبة يؤثرون المجيء ليلة الختام حتى انقضاء اليوم التالي المعروف ب''الليلة الكريمة'' التي ينفض بها ''المولد'' إلا من رغب في البقاء تجنبًا لزحام الرحيل، وهؤلاء لهم المحال والشوادر.
الغرفة ''المستترة''.. ''الدراويش'' على اختلاف أشكالهم

صوان ثبتته أعمدة حديدية أخفى المدخل، وترك جانب صغير للعبور، تراصت بعض الحصر البلاستيكية على مقدمة المحل الواقع بشارع الجمالية، جلس فوقها ''المدير العام بالتربية والتعليم، والتاجر المقاول، وأيضا الإيطالي المعتنق لتوه الإسلام، يدعى ''مصطفى''، ارتدى جلباب صعيدي، جلس على الأرض يأكل ''الفتة والفول النابت والملوخية الناشفة''، كلماته العربية البسيطة وملامحه الأجنبية تميزانه، إلا أن لا أحدا يسأله أو يجبره على البقاء، فكثرة السؤال عن الشخص تفاصيل تسيء لأدب التواجد في حضرة ''الدراويش''.
على مكتب قديم يتصدر المدخل جلس رجل كللت تقسيمات وجهه لحية بيضاء وضاءة، يناديه الكل ''يا جدي''، حق على مَن وطئت أقدامه المحل أن يجيب دعوته على الطعام، تحسبه المضيف لكنه يخبرك أنه ''خادم'' للوافدين احتفالاً بمولد ''سيدنا الحسين''.
''طلب الأذن'' بالزيارة أدب آخر في التعامل، قبل الخوض في الحديث، غايته إعطاء النفس هدنة وصبر، فإن عاد الوافد وجب له تلبية مطلبه، فهي دليل على لبنة حب ملقاة بالقلب، وركيزة كلمات كبار الشيوخ العشق الإلهي والتصوف.
ركن التربوي

الكبير والصغير وقفوا في حضرة هذا الجد السبعيني، الذي خدم مسبقًا في مجال التربية والتعليم، الحب والأدب مع آل البيت هو الاتفاق والعهد بين الجد، أبرز الموجودين كان ''محمد سرحان'' المدرس السابق القادم من البحيرة، والمالك للبيت الواقع فيه الدكان، والذي خصص شقة كاملة لاستضافة السيدات الوافدات للاحتفال بالمولد، إلا أن تطور الزمان والعلم والثقافة جعلته يقول: ''الدنيا اتنورت وبدع كتير راحت، الناس الأول كانت على الفطرة بتيجي محبة لمولانا الحسين، دلوقت اللي بيجي بيكون محب وعاشق لآل البيت بالمقام الأول''، مفرقًا في حديثه بين ''شد الرحال للمساجد'' وفقا للحديث النبوي الصحيح، وبين ''شد الرحال للحسين'' الذي قال فيه الرسول ''الحسين مني وأنا من الحسين''.
حالة حشد وتأهب لجمع على مدار أيام متتالية يفيض بها الخير وصفها الرجل الخمسيني ب''كرم جاي من المنبع، والطريق لله طالب ومطلوب''، فالجميع ''الفاسق قبل الصالح هم في ضيافة الإمام الحسين جمعهم الله عليه ليحشرهم معه بسر قوله من أحب قوم حُشر معهم''، تحتد كلماته مع الاتهام الموجه للوافدين وتهدأ مع وصفه ''هم مقاطيع لعبادة الله في تلك الأيام''.
حيَّ الجميع مجيئه، مرتديًا -قميص وبنطال- خلاف المتواجدين مرتدي الجلابيب، لكن مَثلُ حاله كغيره ''محب'' و''خادم للضيوف''، ''عبد الحميد حمدان''، رجل أعمال حرة كما يصفه الصحبة يفد من دمنهور من أجل رفقة محبي ''آل البيت''، من يأنف المكان ويشعر بالحرج من التواجد وتناول الطعام مع هذا الجمع لم يدخل قلبه المحبة بعد كما ذكر ''حمدان''، فالتنازل عن كبر النفس شيء صعب لا يقدر عليه إلا من شاء الله أن يضع في قلبه الرحمة، والوجود في تلك الأمتار والسير بين المارة تطهير للنفس وتهذيبها في نظره.
ركن المحارب

على مقربة من مكتب الجد وضيوفه، ركن انبعث منه ضوء خافت بالمحل الذي ما كان سوى مخزن، هدوء لا يقطعه سوى حديث الصحبة الجالسة على الحصر، وضعت فوقها أغطية نوم، سكن الجمع القادم من ''المنوفية'' خلال ثلاثة أيام، هو حق الضيافة عند العرب وهم ''ضيوف عند مولانا الحسين'' كما قال ''عبد العاطي محمد عزب''.
أمتار لا تتعدى ثلاثة تحتضن أشيائهم التي اصطحبوها من أسبتة العيش، موقد غاز وملابس، استند ''عزب'' بجلباب صعيدي رمادي اللون وعمامة بيضاء للحائط المتشبع بالرطوبة، من قرية ''صراوة'' بالمنوفية يخرج الرجل السبعيني لسنوات قاصدًا الموالد يصفها ''25 سنة قعدت أحب آل البيت''، لم يكن كذلك، فالمرة الأولى التي وفد بها ''للحسين'' كانت تضييع وقت ''كان عندي فراغ''.
بصحبة خاله جاء عام 1978، كان يبلغ الثانية والثلاثين من العمر، بعد أن قضى مدة خدمته بالجيش، تسع سنوات شارك خلالها في حرب أكتوبر بسلاح المدرعات وصل لرتبة ''شاويش بتلات شرايط''، فترة افتخر بها ما كان نهايتها سوى قرار بالتعيين كعامل بالوحدة المحلية لقريته، أوشك أن يرفض ''فجأة لقيت نفسي همسك مقشة وأكنس الشارع صعبت عليا نفسي''، تراجع عن موقفه بكلمة من أحد المشايخ ''يمكن ده سبب عشان رزقك''، اقتنع ''عزب'' بالوظيفة ''رضيت وحمدت ربنا''.
نقلة في حياة الرجل السبعيني الذي كان مقصده في البداية ''اتفرج على الناس'' ليتحول إلى ''محب'' من الفلاحين، كما يصف نفسه، بدأت بالحديث للمتواجدين، مراقبة أفعال العباد ''بدأت أحس برهبة؛ بخوف من ربنا''، فقرر ألا ينقطع عن الزيارة كلما استطاع كل جمعة، فضلًا عن المولد الذي لم يتخلف عنه سوى مرة واحد العام قبل الماضي لمرض أحد أبنائه.
بصحبة أهل قريته اعتاد المجيء الرجل ذو اللحية والشارب الأبيضين، قبل أن يشتد عضه بأبنائه الثلاث، وهبهم الله له على كبر، ''سراج'' رفيق أبيه يداعبه بين الحين والآخر، يخجل من الحديث مع الغرباء، يكفتي بإطلاق ضحكاته الطفولية ''يحب يبقى معايا'' سبب مجيء الصغير ابن التسعة أعوام من ناحية، وحتى يتجنب أبيه مشاجرته مع شقيقه الصغير ''شهاب'' من ناحية أخرى.
''فرحة الناس فرحة ليا'' مودة من يعرفه هى ما تدفع ''عزب'' لمواصلة المجيء، مفهوم عممه من فهمه لآيات القرآن في حب آل بيت البني ومن ثم زيارته ل''الحسين''، فرؤيته لأناس تأتي من محافظات مختلفة كل عام، تجعله ينتظر السنة التالية للقائهم بعد أن وجد منهم ''بنبقى قلبنا على بعض''.
25 فبراير أحلى يوم ل''عزب'' لأنه ''يوم مولانا سيدنا الحسين'' تستجمع الصحبة عزالها البسيط للعودة إلى موطنهم باليوم التالي مودعًا حفيد البني بكلمات ''لو علمت الأرض من جاء يزورها واستبشرت وحيت موضع القدم لنطقت بلسان الحال قائلة أهلاً وسهلاً بأهل الجود والكرم''، سطرها رغم عدم دخوله المدارس قط لكنه ''علمت نفسي القراية والكتابة وأسلوب الكلم''، فأصبح له حكمته ويقينه أن ''الكلمة الصادقة زي الكرسي لها أربع رجول لو واحدة انكسر يقع''.
''أكل اللقم يزيح النقم'' كلمات حفظها '' فتحي مرسي'' عن أبيه منذ قدومه إلى ''المولد'' للمرة الأولى وهو بعمر الخامسة عشر، لم ينقطع بعدها عن المجيء، فخدمة الضيوف بالنسبة لمدرس الأزهر برفقة الصحبة القادمة من المنوفية ''محبة وتعارف''.
الغرفة ''الإرث''.. صدقة ''حسين'' وأخواته

''طريقتي دين بلا بدعة. عمل بلا رياء. همة بلا كسل. نفس بلا شهوة. وقلب عامر بالمحبة'' اقتباس لكلمات ''أحمد الرفاعي'' شيخ الطريقة ''الرفاعية'' حرص ''حسين طلب'' على وضعها لتستقبل الوافدين بشارع ''الجمالية''، الذين لم ينقطعوا منذ 35 عامًا حيث بدأ والده ''الخدمة'' وأصر أبنائه ال11 عليها ''صدقة'' لوالدهم الذي تشربوا بكلماته عن حب آل البيت.
''محل فحم'' هكذا يُعرف الدكان قبل يومين من تحوله إلى قبلة للضيوف، أمتار قليلة تضم النساء داخل أركانه، تنسدل عليهم ستارة، لا ينكشفون على أحد حتى انتهاء المولد، بينما يجلس الرجال في ظل الصوان خارجه يتبادلون الذكر والاستراحة بعد زيارة المقام والتجول بمنطقة ''الحسين''.
في سن 12 عامًا أبصر الشاب الثلاثيني خريج تربية الأزهر والده يقوم على تحويل المحل أيام المولد لاستضافة الوافدين الذين غالبًا ما يكونوا معروفين، موقنًا أن ''الجودة بالموجودة''، ليرث عنه خلاف الفعل، الفكرة بأن الأمر ''محبة لله وآل البيت'' مخالفًا للفظ ''الهجرة'' الذي يجده البعض في ترحاله إلى مولد ''الحسين''، فالرحال لا تشد إلا لثلاثة وفقًا للحديث الشريف كما ذكر ''طلب''.
الغرفة الكبيرة ... ''وكالة الطرشا'' ترحب بكم
شوارع متداخلة، الزحام يزداد مع تقدم ساعات المساء، بعضهم يستعد لتناول الطعام، والآخر تمايل مع أنشودة يتلوها أحدهم، يشترون حلوى ''المولد'' الشهيرة لذويهم، لا تتوقف الكلمات المنطلقة بسجية ''صلِ على حضرة البني'' و''مدد يا سيدنا الحسين''، يعود الهدوء مرة أخرى بالوصول إلى ''الوكالة'' كما يطلق عليها.
أزقة صغيرة، ملتوية، تعانق أجواء المشهد الحسيني، بيوت خشبية منهكة تحكي جدرانها المائلة سيرة المكان وأهله، خيمة في نهاية الزقاق رفعت لافتة لإحدى الطرق الصوفية، بينما تراص العشرات أمامها على طول ''حارة الست وسيلة''، تسليتهم الحديث والذكر، إلا أن ثمة أصوات صادرة من عطفة صغيرة بداخل الزقاق، يحجبها باب خشبي عملاق، خلفه ''وكالة الطرشا''.
مكان يحمل عبق الزمان، مخزنًا للعطارة، يمتلكه رجل يدعى ''الحاج علي الطرشا''، يعود لما يقارب المائة عام أو يزيد، إلا أن بوفاة ''الطرشا'' انقضت صفة المكان، وتوارثه الأبناء، اقترح عليهم الجار ''الحاج صلاح'' أن يستقبلوا فيه ضيوف مولد الحسين، لتعود الحياة من جديد تدوي داخل الوكالة.
ساحة أبعادها حوالي عشرة أمتار عرضًا، وأكثر من الضعف بقليل طولاً، دورة مياه واحدة اتفق على تنظيمها الرجال والنساء من مستأجري المكان القادمين للاحتفال بالمولد، وهناك أيضًا مطبخ واحد، اجتمعت فيه المواقد و(البواجير) والأواني العملاقة، وقفت فيه النسوة يستعرضن مهارتهن في إنجاز والإسراع بطهو الطعام، وأيهن أحسن عملاً.
''أم عبير'' القادمة من مدينة 6 أكتوبر، والتي بدا عليها أنها ''كبيرة ركن المطبخ''، قالت إن إيجار الخيمة الواحدة يتكلف 500 جنيهًا، وهي عبارة عن ''قاطوع خشب'' يتولى المستأجر كسوته بقماش الخيام، يقسمه إلى حجرات للنساء والرجال، المكان يتسع لسبع خيمات كبيرة كما ذكرت السيدة معلقةً أن ''الدنيا هنا أمم وكلهم جايين من برة مصر –القاهرة، بنيجي ونجيب حاجتنا على عربيات نص نقل وحد بيوهبهالنا محبة للحسين، وأدينا بقالنا 8 سنين على ده الحال مابنخلفش ميعاد''.
متمتمًا بأدعية السفر ووضع نية أن ''أحب الله في رحاب مولانا سيدنا الحسين''، يقضي ''محمد الشلوف'' ساعات السفر من الشرقية إلى القاهرة حيث ليلة المولد الذي لم ينقطع عنها منذ عام 1990، تترقق عيناه بالدمع بين الحين والآخر، يجد فيه الجمع الجالس حوله، ثقة يستمعون لكلامه في صمت، يتبادل مع الجميع الإحساس بالمحبة فهكذا يجد أيام المولد ''قعدة حب في الله'' لعل الله يستجيب للجميع بدعوة أحد صالح بينهم، حسبما قال.
يجلس الشاب الثلاثيني، موظف هيئة النقل العام بين الجميع، بجلباب صعيدي وعمامة بيضاء ونظارة طبية، يصفقون معًا على أنغام الدف، ينشدون كلمات مدح في النبي –صلى الله عليه وسلم- وحفيده، يجد في ذلك ''رزق'' يتمنى لو يأتي لأكثر من يوم لكن ظروف العمل تمنعه لذلك يرضى بالقليل من الساعات.
الوكالة على اتساعها اكتست تمامًا بأفرع اللمبات الكهربائية، وبالداخل؛ كان لزامًا أن يتواجد ''مهندس كهرباء'' متفرغ لهذا الأمر ''حسين منصور'' الكهربائي القادم من البحيرة، وهب مجهوده لخدمة أحباء بيت النبي –صلى الله عليه وسلم- أينما ذهبوا وحلوا، معتمدًا على ''كهربة العمومي''، مستبعدًا أن يلجأوا إلى المولدات الكهربائية، فهي في نظره ''شيلة على الفاضي وممكن تتسرق''، معللاً أمره بقوله ''الحكومة جايبة بره مولد كبير يغذي المنطقة عشان المولد، واستحالة النهارده تلاقي الكهربا بتتقطع زي ما بتتقطع في باقي مصر''.
الغرفة الفنية .. مدح النبي على أنغام الدف و''الكمانجة''
بداخل ''الوكالة'' كانت خيمة، على اتساعها يتراص السكان والوافدون للزيارة، تتخالط الأصوات مابين ضجيج أواني الطهي، وثرثرة الأطفال الصغار، رجال اجتمعوا في حلقة يذكرون الله في همهمات منخفضة، وشخص تصدر مجلسه ماسكا دف بينما جيرانه في الحلقة يستمعون في طرب لمديح منشد ديني، نظم قصائده لمدح الرسول الكريم وآل بيته، بينما في صدارة الخيمة جلس رجل أربعيني وشاب ابن عشرين عامًا، يستعدون لبدء وصلتهم الخاصة على أنغام الكمان.
''صلاح حسين'' وتلميذه الشاب ''محمد زكي''، تعلموا الموسيقى والعزف على آلة الكمان سماعيًا، أصبحت ''الكمانجة'' جزءً هامًا في حياتهم ومصدر رزقهم أحيانًا، وهبوا وقتهم للعزف وراء المداحين والمنشدين في الليالي الدينية، لكن ليال مولد آل البيت حدثًا هامًا ينتظراه كل عام، وتكون إحياء الليلة فيها لوجه الله، حسبما قالوا.
المرة الأولى لحضور ''زكي'' مولد ''كان عمري 10 سنين، وبدأت رقّاق -عازف ألة الرق، بعدها اتعلمت الكمانجة وبعرف أعزف أي أغنية بمجرد سماعها وتجربتها''، تعقبه كلمات معلمه ''صلاح'' عن استخدامهم لتلك الألة خصيصًا ''قصائد المديح النبوي هي السهل الممتنع، إمتى تعلى بالمقام وتنزل بيه، والكمانجة حنينة بتخدم الكلمة وتشد ودن السامعين''.
''الحسين وزين العابدين والسيدتان زينب ونفيسة''، كلها ليال على موعد مع أوتار الرفيقان ''صلاح وزكي''، لكن مصدر رزقهما الأساسي يأتي من طلبهما لإحياء الليالي الدينية أو الأفراح في القرى ''أحيانا ربنا بيبعت لنا نفحة من كرمه ويجيلنا الرزق هنا في جار الحسين''، على يقولها ''صلاح''.
الغرفة الهادئة.. ''الكيف'' نذر للأحبة
بالخيام يتجلى مشهد وجودهم أمام موقد تنبعث منه حرارة البخار جوار أكواب زجاجية صغيرة، يجلسون بأحد الجوانب، بين المجتمعين في ضيافة الحسين للذكر والإنشاد والترتيب لليلة الكبيرة، يتفكرون في أحوال الدنيا وأين تكون وجهتهم القادمة، إلا أن التفكير والوقت لا يحلوا سوى ب''شاي خمسينة'' أو فنجان ''بن محوج''، وهو الأمر الذي تكفل به ''سعيد صبحي'' ليكون نذره الخاص في ليالي مولد الحسين.
''سعيد صبحي'' نائب الطريقة الشاذلية ذو ال63 عامًا والقادم من القليوبية، طوال 30 عامًا مضت من عمره لم ينقطع فيها عن زيارة الإمام ''الحسين''، يحفظ عن ظهر قلب الجدول السنوي للموالد والاحتفالات الدينية، ومن بين القادمين والمقيمين في ''الوكالة''، وعلى اختلاف نذورهم لإحياء تلك الليلة وإكرام من أحيوها، وجد ''سعيد'' أن ''الكيف'' هو نذره الخاص.
مستندًا على مدخل خيمته التي كلفه إيجارها 500 جنيهًا، أنهمك ''سعيد'' في تحضير ''طقم الشاي''، قال ''أنا بجيب كام باكو سكر على شاي على بن وأوهبهم لوجه الله وإكرام الناس هنا''، معللاً اختياره ''كل إنسان وعلى أده والحمدلله أنا مقتدر وبوهب حاجات بيني وبين ربنا، بس زي ما فيه حسنة في السر بين العبد وربه، فيه حسنة ظاهرة للعباد، وأنا خليت الشاي والقهوة كيف الناس هي حسنتي الظاهرة، وأجري على الله''.
غرفة ''الوفاء''.. ''فاطمة وخضرا'' رفيقتا السكن والموالد
بانتظار الذهاب إلي خيمتهم ''خدمة طه عبود'' للاستراحة كانتا، روح واحدة انقسمت على ملامحهما القروية، ملابس اتشحت بالسواد، وعمر لا يختلف أكثر من عامين، عيونهما تراقبان بعضهما البعض في القرب والبعد، لا تكادا تقتربان حتى تجلس كل منهما للأخرى تستأنس بها، تتسامران سويا في حكاوي أهل المولد، ويتسابقان في دعوة عابري السبيل وضيوف ''سيدنا الحسين'' لوليمة عامرة قوامها ''الفول النابت والعيش والجرجير''.
''فاطمة حسين وخضرا محمد''، سيدتان طرقت سنوات عمرهما العقد السادس، جاءتا من قريتهما النائية ''سيرياقوس'' محافظة القليوبية، عاشتا عمرهما كله تتجاوران في السكن والصحبة، فكل منهما لا تملك من رفاق الحياة سوى الأخرى، حتى باتا تعدان أنفسهما أخوات لا جارات أو صديقات، ومن الصحبة في الجيرة والسكن، إلى الصحبة في الانتقال بين الموالد وخدمة محبي آل بيت النبوة، جاءتا يعرضان نذورهما لعابري ''شارع الجمالية''.
''فاطمة'' لم تنقطع عن زيارة ''الحسين'' منذ 30 عامًا، إن استطاعت تأتي كل أسبوع، وإذا لم تتمكن لا تغفل عن ''المولد''، هذه المرة مختلفة لها، جاءت تلبية لنذر قطعته على نفسها أمام الله، فقبل شهر مرضت السيدة –التي لا تنقطع عنها الابتسامة- لم تعد تقدر على الحديث، دعت ربها أن يعافيها، لتشكره بالصلاة وزيارة لحفيد النبي –صلى الله عليه وسلم، بجلبابها الفلاحي و''صرة'' من القماش مزركشة يحتضنها صدرها تحتفظ بكل ماتحتاجه للتنقل في ذلك اليوم من أموال ورقم هاتف كتبه ابنها الكبير لها، وهويتها الشخصية، تهم بزيارة المقام بين الحين والآخر والصلاة ثم الجلوس لتوزيع ما حملته من طعام، لا يغيب عنها سوى زوجها، تتذكره فتذرف الدموع لفقدانه في مثل تلك الأيام قبل عام، ولولاا ذلك لحضر معها كما كان يفعل، لا يهون عليها سوى صديقتها.
''خضرا'' أم لأربعة أبناء وأبنة، جميعهم حالفهم الحظ وتعلموا وعملوا بوظائف جيدة، إلا أنهم رفضوا المجئ والمبيت في ليالي المولد، فذلك بالنسبة لهم ''عادة قديمة وجهل''، على حد وصفها، إلا أنها لا تجد أدنى حرج في التعبير عن حبها للحسين ''حبيب النبي وجوهرة عينه''، متقربة لله بالخير الذي يبعثه، ناذرة ''الفول والعيش'' لإطعام زوار حفيد الرسول.
كبر سن السيدتان يجعلهما لا يقدرا على المبيت أكثر من ليلة، الساعات الفاصلة بين الليلة الكبيرة والكريمة، على حصير وبطانية تفترش السيدتان الأرض داخل أحد الشوادر التي أعتادوا عليها، يختطفان ساعات النوم حتى الصباح يقضيا ساعاتهم في حضرة ''الحسين'' حتى صلاة العصر ليعودا إلى قريتهم بأمل للقاء العام التالي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.