عام مرّ؛ فأحداث الرحيل لازالت تفرض نفسها على ذكريات الوالدين بالقوة، كأن التفاصيل الموجعة لموت الابن لم تترك وراءها إلا والدة أعياها الفراق ووالد فقد النظر بإحدى عينيه بسبب حزنه وبكائه المتواصل على ابنه. ''يوسف حمادة'' الذي ذهب إلى ماتش الأهلي والمصري في ''استاد'' مدينة بورسعيد، لم يكن يعلم أن هذه المرة هي آخر مرة سيرى فيها والديه وزوجته، ولم يعلم أيضا أنه سيموت ''بطلاً'' طبقا لكلام كل من تحدث عنه بعد مماته لدوره في إنقاذ الذين أوشكوا على الاختناق أمام بوابة ''الاستاد''. بصوت يتهدج بالدموع التي لم تهدأ يوماً، حكى ''حمادة يوسف'' والد الشهيد الحكاية قائلاً ''أنا مكنتش أعرف إن يوسف راح الماتش، فكنت بتفرج وبعدين ع الساعة سبعة كدة لقيت الجماهير بدأت تنزل الملعب ولقيت المذيعين بيقولوا إن فيه ناس ماتوا، فاتصلت على بيت يوسف وعرفت إنه راح الماتش''. دبّ الخوف في قلب الأب عندما علم أن ابنه ذهب، إذ كان الصوت الذي يتردد في أذنيه يخبره أن ''ابني أكيد مات''، فقرر الاتصال به ليطمئن عليه لعله يهدأ قليلاً، فأجاب على هاتف ابنه أحد عساكر الأمن المركزي في ''الاستاد''، فطلب الأب أن يطمأنه على فلذة كبده وأن يخبره الحقيقة؛ فما كان من العسكري إلا أن قال له '' ابنك تعبان شوية يا حاج''، فطلب منه الأب أن يسمع صوت ابنه ليطمئن بنفسه، فجاءت الإجابة بقطع العسكري الاتصال وإغلاق الهاتف. ''اخدت ابني الكبير وقولنا هنروح على بورسعيد نشوف الولد، وبعدين استنينا وروحنا تاني يوم الساعة 9 الصبح على المطار الحربي''، وفي المطار الحربي كانت المفاجئة؛ حيث قيل له أن جثة ابنه ترقد في مشرحة ''زينهم'' بالقاهرة وعليه الذهاب هناك لاستلامها. جرجر الأب المكلوم قدميه جهة المشرحة التي حوت جثة ابنه ليلقي عليه النظرة الأخيرة '' يوسف مات بسبب إن الباب وقع عليه عشان كان بيحاول ينقذ صحابه، لأنه راح الحمام ورجع لقى البوابة ملحومة وصحابة جوه الاستاد بيموتوا من الخنقة ومش عارفين يخرجوا''. حاول ''يوسف'' أن يفتح البوابة بأكثر من طريقة لكنه فشل، حتى أنه طلب مساعدة الضابط الذي تجاهل توسلاته، لكنه نجح في النهاية أن يكسر قفل الباب الذي ما لبث أن انفتح حتى تدافع الشباب خروجاً من الباب لينجوا بأنفسهم، وليسقط الباب على ''يوسف'' فيموت في الحال تحتها. أكثر ما خفف عن الأهل مأساة موت ابنهم هو كونه '' ابني أنقذ صحابه، أنا فخور بيه، كان الناس بتحبه، وبعد ما مات لسه الناس بتتكلم عنه في كل مكان لأنه عمره ما أذى حد''.. قالها والد الشهيد. لم يترك ''يوسف'' أب وأم وثلاثة أخوة غيره فقط، بل ترك زوجة لم يمر وقت موته على زواجها به سوى شهرين؛ حيث أن الزوجة الوحيدة أصبحت أما ل''جنة'' التي لم ولن تعرف أبيها. سن ''يوسف'' وقت موته بلغ ''29'' سنة، وعلى الرغم من أنه كان يعتبر من أكبر أعضاء ''أولتراس'' أهلاوي إلا أنه لم يترك الكرة يوماً؛ فقد كان '' بيحب يلعب كورة علطول، وكان منضم للأولتراس من فترة مع إنه كان بيشتغل في مصلحة الجوازات والهجرة بس عمره ما فوت ماتش، ودايما بيروح معاهم، كان صحابه يحبوه وكان بيجيبلهم حاجات ياكلوها عشان الماتش وعشان الطريق وهما مسافرين''. لعل الحكم الذي صدر منذ فترة قليلة بحق أهالي الشهداء جعل الأنفس المتلاحقة تهدأ قليلاً، إلا أنه يعتبر في نظر أهل ''يوسف'' مجرد ''شبه حكم''؛ فالحكم الحقيقي سيصدر يوم 9/3 وهو ما ستطمئن القلوب به إذا كان في صالح أهالي الشهداء - على حد قول والد ''يوسف'' - الذي طالب في النهاية ب''أنا عايز اللي لحم البوابة يتعدم، لأن هو السبب في موت ابني''.