كل من خالطه لامس فيه طيبة القلب وروح الفكاهة، لم يكن يُلقِ بالاً لكل هموم الدنيا، وكأنه كان يعلم أنه ليس من أهلها، أكرمه الله بالشهادة، لحسن أخلاقه وبره بأهله، ليودع ضيق الدنيا إلى رحابة الآخرة، فى نُزل مع الصديقين والنبيين، وما أحسنها من نزل. إنه باسم عبدالله، أحد شهداء رفح، الذى توقف عمره عند الخامسة والعشرين. لم يكن يدرى باسم، الذى طلب من زوج أخته سامح أن يصنع له «بوسترا» كبيرا: «اعمل لى بوستر بصورتى زى بتاعك»، أن هذا ال«بوستر» سيوضع فى صوان عزائه، بدلاً من بيته، الذى كان ينوى أن يضع أول لبنة فيه، بعد العيد، حيث «كان ينوى أن يخطب فتاة من المنصورة». يشعر سامح بباسم كأنه معه ولم يفارقه، لا يتذكر مشاكله «القليلة» معه: «حتى لما كنا بنتخانق كنت بتصل اسأل عليه ما هو ده ابنى الصغير»، ويتذكر سامح آخر اتصال تلقاه من باسم: «الإجازة الجاية هاجى أفطر معاك ده وعد عليا». مقالب باسم تنسى سامح بعضاً من حزنه، يقول: «كان بيحب يعمل مقالب خصوصاً فى والدته، فذات يوم كانت والدة باسم فى بيت رشا شقيقته، فاتصل ليخبرها أنه عاد من الجيش، ولم يجد أحد بالمنزل، ومرة أخرى اتصل بوالدته قال لها إنه عند أخته فى البيت فزعلت عشان مرحش يسلم عليها الأول». صباح يوم وفاته، وكأن باسم كان يشعر بدنو أجله، أجرى اتصالاً بوالدته وشقيقه الأكبر ياسر؛ ليطمئن عليهما أو ل«يودعهما»، ثم اتصل ثانية بأمه قبل الإفطار مباشرة، وأنهى مكالمته: «اقفلى يلا يا ماما وروحى افطرى وأنا كمان»، لتكون هذه الكلمات هى آخر ما يطرق بها باسم أذن أمه، ليختفى صوته بعد ذلك إلى الأبد. كان باسم، الذى كان أصغر إخوته الثلاثة رشا وياسر ورانيا، لا يهاب الموت، ويمنى نفسه بالموت شهيدا، فكان دائماً ما يقول لوالدته: «لو مكتوبلى أموت هموت لو حتى كنت جنبك على السرير، وبعدين هو أنا أطول أموت شهيد؟». باسم كان يأخذ كل الأحداث على مأخذ التهريج، فكان يصور ما يحدث على الحدود أحياناً، كما كان يصور بعض الانفجارات التى تحدث فى فلسطين ويستطيع رؤيتها، «آخر مرة شفناه كان من 10 أيام، كانت إجازته، وفطر معانا وقعد يضحكنا زى العادة». جاءت لسامح، وهو فى عمله، من أسامة «زوج رانيا شقيقة باسم» مكالمة أذهبت عقله وجعلته غير مدرك للواقع من حوله: «باسم مات يا سامح»، حاول سامح ألا يصدق الخبر، فقال لأسامة: «باسم ابن ياسر، أخو باسم؟!»، الذى سمى على اسم عمه، لكن أسامة صعقه وأكد له: «بل باسم أخو مراتك». وسرعان ما تحدث سامح مع ياسر «شقيق الشهيد باسم» ليفهم منه ما حدث لباسم، جاءه صوت مبحوح من الهاتف ليؤكد له هذا الصوت دون أن ينطق أن خبر الوفاة صحيح، ويشرح ياسر: «تليفونه بعد الفطار كان مقفول وبعدين اتفتح وصاحبه قال لمامته اترحمى على ابنك واحتسبيه شهيد». لم يستطع سامح إخبار زوجته بوفاة أخيها باسم، «قلتلها أختك اتخانقت مع جوزها ويلا هنروحلها عند مامتك»، لم تقتنع رشا كثيراً بكلام زوجها وظلت تسأله عن سبب الزيارة المفاجأة لوالدتها، «أول ما وصلنا إمبابة بيت باسم لقينا باباها قاعد قصاد باب العمارة، اتخضت وجريت على فوق فعرفت إن أخوها ممكن يكون مات بس مكناش متأكدين». بدأت بعد ذلك رحلة سامح مع ياسر، للمستشفيات بحثاً عمن يؤكد لهم إن كان باسم قد مات أم أصيب، «رحنا الوحدة العسكرية معبروناش، وبعدين رحنا مستشفى كوبرى القبة العسكرى، وفضلنا مستنيين لحد الصبح»، ساعات كثيرة تمر وعائلة باسم ما زال لديها القليل من الأمل أن باسم مصاب وليس أكثر. «أقسم بالله العظيم باسم مات وأنا بكلمكوا وجثته قدامى دلوقتى»، هذا ما قاله قائد كتيبة باسم لسامح عندما طلب منه التأكد من خبر وفاة باسم مرة أخرى. أول ما ورد لذهن سامح فى ذلك الوقت معرفة سبب الوفاة، «رصاصة فى الرأس هى التى أودت بحياة باسم».