سأحكي لكم قصة.. ربما سمعتموها وعايشتموها بشكل يومي.. ربما لم تعد تؤثر فينا لأنها تتكرر دائما.. ربما لأن قلوبنا أصبحت مع الوقت متبلدة.. قاسية.. تعودت على الظلم فأصبحت ظالمة ومظلومة.. لا يهم.. فقد أنصتوا. كنت جالسًا في مقهي كالعادة.. ادخن وأقرأ كتاب سميك عن الاقتصاد.. لا تتعجبوا لله في خلقه شئون وللناس أمزجة غريبة.. وأنا مستغرق في القراءة والتعلم قطع خلوتي سيدة تطلب "أي حاجة ربنا يخليك عشان أتعشي"، نظرت إليها فوجدتها سيدة تبدو وكأنها ستقسط مغشية عليها في أي لحظة، تلبس ملابس خفيفة محتشمة في درجة برودة تجعلك تتعجب من أنها لازالت على قيد الحياة.. وبيديها طفلة.
صرفتها بعد أن أعطيتها – أو لم أعطتها ليس هذا هو المهم – ما طلبت، وظللت أراقب الطفلة، هذا الملاك الصغير ذو الشعر الأشقر والبراءة المتناهية والذهول الطفولي المحبب، تمسك بيد أمها في قوة وهي لا تعلم أي شيء مما يجري حولها، تشعر بالبرودة والتعب ولا تعلم أي شيء سوي أن أمها تعمل كي يذهبوا إلى بيتهم – إذا كان لهم بيت – ليأكلوا ما يسد رمقهم وتنام في حضن أمها.. وغدًا يومًا آخر.
لم يكن موقف جديد أو غريب علي.. تكرر كثيرًا قبل ذلك بأشكال وأحداث مختلفة.. ولكن شئيًا ما في هذه الطفلة هزني.. استوقفني وجعلني أتوقف عن القراءة ولا أتمكن من أن أرفع عيني عنها.
تساءلت في وجوم.. ولماذا تعيش هذا الصغيرة في هذا البؤس.. لماذا تتنقل بين المقاهي والشوارع في الشتاء بينما طفلة أخري في مثل عمرها تجلس وسط عائلتها تلعب وتضحك وتشعر بالسعادة والأمان والدفء؟.. ما الفارق بينهما؟.. هل هذا قدر أم أنه اختيار اختاره العالم لهذا الصغيرة؟.. وما فائدة ما أقرأه الآن وما كتبه المئات عن الاقتصاد والمال والنمو بينما هذه الشقراء الصغيرة تمضي ليلتها في البرد والخوف والجوع؟.
وجدت نفسي أغلق صفحات الكتاب وأراقب الصغيرة وهي تبتعد في الظلام.. أراقبها تختفي عن نظري شاعرًا أنها أخدت معها في تلك الثواني كل إيماني بهذا العلم الذي لم ينجح في أن يحقق هدفه الذي أعلنه منذ وجوده، تأخذ معها إيماني بوجود خير وعدل ورحمة في هذا العالم.
تذكرت حقيقة أن هناك ألفي شخص يموتون غرقًا سنويًا وهم يحاولون أن يعبرون نحو أوروبا بحثًا عن الرزق الذي لم يجدوه في بلدانهم.. وأن نحو ربع سكان قارة أفريقيا يعانون من سوء تغذية شديد ودائم.
الغريب.. أن تقرير رسمي حول الغذاء العالمي لمنظمة الفاو، أكد أن الزراعة العالمية يمكن أن تغذي الآن أكثر من 12 مليار شخص، بواقع 2700 سعر حراري كل يوم لكل بالغ، بينما عدد سكان الكرة الأرضية لا يتجاوز أصلًا ال 6.3 مليار نسمة !. الأغرب.. أن منظمة بريطانية خيرية قالت مؤخرًا أن ثروة أغني 100 شخص في العالم تكفي لحل أزمة الفقر في العالم كله، إذا رغبوا في حلها !.
هل تعلم ما يعنيه هذا؟.. معناه أن من يعيشون في بؤس وفقر ومرض.. من يموتون غرقًا وجوعًا وبردًا.. لم يكن من الصعب انقاذهم.. لم تكن نهايتهم محتومة أو مفروضة.. كان من الممكن أن تتغير حياتهم.. فقط لو أراد الاقتصاديون والسياسيون.
أعلم أنكم ستقرأون هذا الكلام ثم تشعرون بالأسي والحزن.. ستحاولون تخيل هذا الصغيرة وقلبوكم يعتصرها الألم.. ولكن بعد ثواني.. دقائق.. أو حتي ساعات.. ستنسون كل شيء .. ستعودون لحياتكم اليومية العادية لأن لا شيء بإمكانكم فعله.. وربما كان هذا صحيحًا.. وربما لا.. أنا أيضًا سأنسي.. ولكني سأتذكر دومًا أنني كفرت بهذا العلم للأبد.. مالم يجد لهذه الصغيرة وملايين غيرها حل.. مالم يوفر لهم حياة ومستقبل.. ملم يجعلهم شاعرين بالدفء والشبع والامان.. فأني كافر به.
هذا المقال لا يعبر عن رأي موقع مصراوي.. ولكنه يعبر عن رأي كاتبه فحسب