«ما يريده الإنسان هو أن يُسْتَقبل (بضم الياء). وبحفاوة ودفء. لا تُرْغمْه علي كسر نفسه أو إنكارها كشرطٍ لقبوله، لأنّك بهذا محواً تمحوه وقتلاً تقتله» هكذا يكتب أنسي الحاج مضيفاً: «الضيافة الحقيقيّة هي الترحيب بالآخر لا علي علّاته فحسب، بل بشعور قلبيّ أنّه أفضل منّا». ويؤكد الشاعر اللبناني أن شعورنا حيال الغريب يجب أن يكون «كما لو أنه طفلٌ جاء الآن إلي العالم ويحتاج إلي البشاشة وكلّ ما يغمره بالأمان» وطبعاً في هذه الدنيا كلنا هذا الطفل و.. كلنا هذا الغريب !! و«الحياة مفاجأة كبري» قالها فلاديمير نابوكوف منبهاً أيضا بأن «الموت مفاجأة أكبر منها». الروائي الروسي كان يري «أن خيالنا يحلق في السماء ونحن ظلاله علي الأرض». وبالطبع لم تكن «مفاجأة» أن تثير روايته القنبلة «لوليتا» ضجة كبري حينما ظهرت و .. أينما ذهبت. «لوليتا .. يا نور حياتي ونار صدري.. يا خطيئتي وروحي.. أيتها النيران المتقدة في عروقي! يا من تهزج روحي باسمك ..(لو- لي - تا)». ولم يتردد المخرج الأمريكي مارتين سكورسيزي في وصف عبقرية أداء الممثل «روبرت دي نيرو» بأنه « كان يفاجئه في كل مرة يختاره لتمثيل دور ما». دي نيرو كان يفاجئه بتجسيده شخصيات عديدة تتشكل أمام الكاميرا ثم تقترب منا وتبهرنا من خلال شاشة السينما. وفي كل الأحوال فإن مفاجآت «دي نيرو» تركت - وما زالت تترك بصمات تبقي أبداً في ذاكرة عشاق السينما. منذ فترة غير وجيزة اعتاد الموت (ومفاجآته أكبر) أن يفاجئنا بخطف مبدعين ومفكرين أعزاء من بيننا وهم بالمناسبة «ضمائرنا» و«ملح الأرض» أو «خميرتها». وبالطبع هم مع قلتهم يشكلون ويلونون ويزينون ويعمقون حياتنا ويعطون لها طعماً ومذاقاً وقيمة ومعني. ولهذا يعد «فقدانهم» و«غيابهم» خسارة فادحة.. وقد كان آخر من خطف منا الموت هو الفنان عدلي رزق الله ( 1939 - 2010) . وهو قد عاش معنا وبنا ووسطنا «أكثر من حياة واحدة» (حسب وصفه). إنه عاشق الألوان وشاعر اللوحات ومن قام بتدريس وتدريب علم وفن «كيف تري اللوحة» وأن تكتشف مظاهر أو مشاهد الجمال من حولك وفي داخلك لتكشفها للآخرين، وأيضا لتكثفها في لوحة. عدلي رزق الله كان معنا الطفل بدهشته الدائمة والفنان بإبداعه المتنوع والمتجدد والمصري بتاريخه العريق وجذوره الممتدة لآلاف السنين. ولا شك في أن تستطعم كل هذا وتهضمه ليس بالأمر السهل فما بال حين تكون أنت أيضاً القائم بطبخه وعجنه وخبزه . هذا الفنان قبل سنوات وهو ذاهب إلي « كنج ماريوط» في عزلة اختيارية قال: «أعتزلكم لأحياكم .. حباً مستحيلاً لأن شهوتي فيكم لا حد لها» رزق الله في حوار له مع صحيفة «الحياة» قال: «المرأة موجودة في رسومي وكتبي، وموجودة أيضاً في قصصي التي أكتبها للصغار، هذه المرأة كنت أراها دائماً متمثلة في إيزيس التي هي رمز للوفاء والتضحية، وهي عندي أم الحضارة. وتمثل أمي، هذه السيدة الصعيدية البسيطة التي لم تكن تقرأ أو تكتب مقابلاً لإيزيس في حياتي». ويضيف: «حين دخلت الجيوش الأمريكية بغداد، كنت في حالة حزن واكتئاب، حينئذ رسمت امرأة تشبه أمي. رسمتها لأنني كنت في حاجة إليها في هذه اللحظة، فالمرأة هنا هي رمز يمكنك أن تقرأه كيفما تشاء». ثم يستكمل: «والمرأة عندي هي الرحم. وعندنا في الصعيد مثل بسيط جداً وهو «الجاهل ندخله دنيا»، الجاهل هنا هو الشاب الصغير، وندخله الدنيا، أي نأتي له بأنثي يتزوجها... وكأن الأنثي هنا هي التي تنتشله من حياة الجهالة التي هو فيها إلي عالم المعرفة. لقد أدرك الإنسان البسيط أن المرأة معرفة، وهي بالفعل كذلك». ومثلما عشق رزق الله المرأة أحب الأطفال، ورسم وكتب لهم. وهو يقول في مقدمة سلسلة «اقرأ.. اقرأ.. اقرأ وتعلم في مكتبة عدلي رزق الله» التي صدر منها جزآن عن دار «نهضة مصر»: في البداية أحب أن تعرفوا من أنا لكي يحدث الاتصال المرجو بيننا، أنا فنان تشكيلي ورسام ومؤلف كتب الأطفال منذ أكثر من 35 عاماً، اخترت الفن طريقاً لي حينما كان عمري 13 عاما....إذا سألتموني الآن هل أنا سعيد في حياتي؟ فسأقول بملء فمي: نعم، وأعتقد أن الوصول للسعادة في الحياة هو ما أتمناه لكم حقاً...». ونحن علي الرغم من أننا لا نعاني من قلة المفاجآت في حياتنا (خاصة غير السارة منها) يعني لنا خبرة محترمة فإننا غالباً ما نصعق ونصدم ونرتبك عندما تصيبنا مفاجأة وغالباً ما نلعن الزمن ونشكو قدرنا ونندب حظنا. الكاتبة الأمريكية أليس ووكر كانت جريئة وهي تصدمنا بقولها « لا تتوقع شيئا في حياتك.. عش ببساطة علي المفاجأة». وإذا كانت المفاجأة غير السارة تطب علينا في أي زمان وفي أي مكان فلماذا لا تصنع المفاجأة السارة وتذهب بها للآخرين؟ ويقول صديقنا تامر: « أن تصنع مفاجأة عملية محتاجة قلب ودماغ.. رغبة ونية. إنها فن وعلم وحرفنة وفلسفة. ولو قدرت تفاجئ نفسك وتفاجئ الآخرين هي دي الجدعنة والشجاعة والرجولة . وأيضاً الدلع والمفهومية والأنوثة ..وهو بالذمة فيه حد يكره أن يكتشف نفسه أكثر وأكثر!!» ووصفة المفاجأة السارة بسيطة: إنها رنة الموبايل أو التليفون بعد طول غياب .. وطبعا الطرق علي باب بيت عزيز لم تزره منذ سنوات . إنها الرسالة ولو كانت في كلمات قليلة. إنها السؤال (فينك؟!) والتعبير عن شوق للقاء ورغبة في التواصل .إنها التوقيت الاختياري. إنها «قلبي دليلي» و«خدني علي قد قلبي». إنها «نفسي» أشوفك وأكلمك وأشكرك أو أعتذر لك أو أعترف أنني أخطأت» و.. بأنني أفتقدك و«فين أيامك .. فين لياليك». وطبعاً إنها الاختيار والإرادة والقرار والخطوة للتأكيد علي أن «الدنيا لسه فيها خير». وما أحوجنا إلي المفاجأة السارة في حياتنا. وأن تكون «مع سبق الإصرار والترصد». أهي غريبة علينا؟ طبعاً لا وخصوصا إذا كنا لم نفقد بعد الدهشة والطلة علي الحياة. «وما لم يكن هناك شيء تراقبه أو حكايات تستمع إليها، فإن الحياة يمكن آنذاك أن تصبح مملة. عندما كنت طفلاً، كنا نحارب الضجر بالاستماع إلي الراديو أو بالنظر من النافذة إلي شقق الجيران أو إلي المارة أسفل الشارع» بهذه الكلمات يستهل أورهان باموق قصته «أن تطل من النافذة» المنشورة مع مقالات عديدة ومتنوعة وشيقة للغاية في كتاب «ألوان أخري» الصادر عن «دار الشروق». والكتاب ترجمة سحر توفيق. وباموق هو الأديب التركي الحائز علي جائزة نوبل للآداب عام 2006 ومن رواياته «الكتاب الأسود» و«اسمي أحمر» و«الثلج». ويذكرنا باموق «الكاتب يتحدث عن أشياء يعرفها الجميع ولكنهم لا يعرفون أنهم يعرفونها. إن استكشاف هذه المعرفة ومراقبتها وهي تنمو أمر ممتع، يزور القراء عالما هو عالم مألوف ومدهش في الوقت ذاته». نعم، إنها مفاجأة الاستكشاف، ويقول أيضا «إن إيماني ينبع من الاعتقاد بأن كل البشر يشبهون بعضهم بعضاً، إن الآخرين يحملون جراحا كجراحي ولهذا فسوف يفهمون. وكل الأدب الحقيقي ينبع من هذه الثقة الطفولية المفعمة بالأمل بأن كل الناس يماثلون بعضهم بعضاً. وعندما يغلق كاتب علي نفسه في غرفة لسنوات، فإنه بهذه اللمحة يقترح إنسانية واحدة، عالماً بدون مركز». باموق الذي ولد عام 1952 ودرس العمارة لثلاث سنوات ثم تركها ليتفرغ للكتابة يري أن إسطنبول كانت ومازالت «مركز العالم» بالنسبة له ويفسر هذا بقوله: «وليس هذا لمجرد أنني عشت فيها كل حياتي، ولكن لأنني طوال الثلاثة والثلاثين عاما الماضية كنت أسرد شوارعها وجسورها وأهلها وكلابها وبيوتها ومساجدها ونافوراتها وأبطالها الغرباء ومحلاتها وشخصياتها المشهورة، ومناطقها المظلمة، وأيامها ولياليها، جاعلاً كل هذا جزءاً مني، محتضناً ذلك كله .... هذا العالم الذي صنعته بيدي، هذا العالم الذي لا وجود له إلا في رأسي، أكثر واقعية بالنسبة لي من المدينة التي أعيش فيها في الواقع.» ولباموق كتاب اسمه «إسطنبول: الذكريات والمدينة». وبجانب خطاب نوبل الذي ألقاه الأديب لدي تسلمه الجائزة ويحمل اسم «حقيبة أبي» توجد بالكتاب مقالة باسم «أبي» يكتب فيها باموق «عندما لم يعد الغضب والغيرة يعميان نظرتي لأبي الذي لم يوجه لي كلمة توبيخ أبداً، ولم يحاول أبداً أن يكسرني، بدأت ببطء أتبين وأتقبل التشابهات الكثيرة والتي لا مفر منها بيننا. ولهذا فإنني الآن، عندما أتجهم بسبب أبله أو آخر، أو أشكو إلي أحد الجرسونات، أو أعض شفتي العليا، أو ألقي ببعض الكتب إلي الركن نصف مقروءة، أو أقبل ابنتي، أو أخرج نقوداً من جيبي، أو أحيي شخصاً بضحكة من قلب متخفف، أقبض علي نفسي متلبساً بمحاكاته. وليس هذا لأن ذراعي وساقي ورسغي، أو الشامة الموجودة علي ظهري تشبهه. أحياناً يخيفني، ويرعبني، ويذكرني بطفولتي، إنني أشتاق لأن أكون أكثر شبهاً به. إن كل رجل يبدأ موته بموت أبيه». ومن ضمن ما كتبه باموق في كتابه المذكور: «القسوة، الجمال، والزمن - حول روايتي نابوكوف «آدا» و«لوليتا» وأيضاً «أن تقرأ أو لا تقرأ ألف ليلة وليلة» و«جواز سفري الأول ورحلات أوروبية أخري» و.. «عندما يتكلم الأثاث - كيف يمكنك أن تنام؟» إن المفاجأة .. هي سر التجدد والتبدل والتخلص من المعتاد والممل وربما المذل والمحبط والمقرف أيضاً.. «يووه خلاص بقه» أن تفاجئ أو تفاجأ هي القدرة علي الابتكار و«الخروج عن المألوف» و«اتخاذ موقف أو مسار مختلف» وأيضاً أن تنظر إلي نفس الأشياء من زاوية مختلفة وأن تقبل علي ما هو جديد - وتحقق ما سيحدث «الخضة» أو «الزلزلة» في حياتك. وحياتك .. خليها مفاجأة - تسمعها أحياناً من حولك. وقد يكون المطلوب هو أنك تحلف بحياتك وتقسم وتتعهد وتلتزم بأن الخطوة الجاية ستبقي «سراً في بير» وتبقي «مفاجأة». إلا أنني عندما أقول لك «وحياتك .. خليها مفاجأة» فنفسي أن حياتنا ذاتها وحياتك أنت تبقي نفسها مفاجأة وليه لأ.. سلسلة من المفاجآت السارة - بكامل إرادتك أن تفاجئ نفسك وتفاجئ الآخرين بما هو حلو وجميل ومحبوب من جانبك والأهم ألا تتردد أو تشعر بالذنب أو تجلد ذاتك - لأنك عامل مفاجأة وأكيد المفاجأة خير من ألف ترتيب محدد وروتين اعتدناه - وروتين مل من بلادتنا وجمودنا وشللنا وصمتنا وموتنا البطيء. ووقتها تأكد بأنني لن أضع بعد كلمة «مفاجأة» علامة تعجب (!) بل سأضع علامة إعجاب وعلامة تقدير واعتزاز. وهذه العلامات قد لا تظهر في النص المكتوب إلا أنها ستظهر بوضوح في دفء ابتسامتي - وفي بريق عينيي وأنا أشد علي يدك وأحييك. وأكيد فيه ناس تانية كتيرة حتتفق معايا.. وبصراحة حياتنا في حاجة ماسة لمفاجآتنا وزي ما قلنا واتفقنا إن «المفاجأة» مش عايزة دعوة أو «اتفضل» و«إحم» أو «بعد إذنك» خلاص - خليها مفاجأة وحياتك .. وحياة أغلي ما عندك ومش حأقوللك أكتر من كده وفي انتظار مفاجأتك الجميلة والرائعة بس أوعي تنسي أو تتأخر!!