قد تكون حياتها كلها مرت أمامها في تلك اللحظة وكأنها شريط سينمائي، أمها وهي ترجوها أن تأخذ حذرها، والدها وهو يثني عليها ويدعو لها أن تصحبها السلامة، وصوت شقيقتها الصغيرة مازال في أذنها وهي تقول لها "مش هتغدى غير لما ترجعي"، قد تكون تذكرت وعودها لهم بالعودة سالمة في نهاية اليوم، قد تكون هذه الوعود هي التي جعلتها تتشبث بالحياة وقد كان. عاماً كاملاً مر ومازالت الأحداث في ذاكراتها بكل التفاصيل، تحكي عنها بإحساس يملأه الفخر الممزوج بالحزن، لم تكن أول مرة تشارك فيها؛ فأحداث مجلس الوزراء حلقة في سلسلة المظاهرات والاحتجاجات التي شاركت بها؛ فمنذ الثورة وحتى التحاقها بحركة 6 أبريل وهي لا تفوت أي مظاهرة المهم أن تكون مقتنعة قناعة تامة بالهدف من المظاهرة .
تبدأ "هدير مكاوي" في سرد تفاصيل الأحداث فتقول" الاعتصام كان سلمي، مقدرتش أفهم سبب فضه من قوات الجيش، استخدموا معانا العنف فكانوا بيرموا من فوق مبنى مجلس الوزراء طوب رخامي، وأطباق وأبواب، وعلى الرغم من دا مرفعتش الطوب ورميتهم به غير لما استفزني منظر عسكري الجيش وهو بيضرب ماما خديجة وهي رايحة تقدم لهم سندويتشات وبترجوهم أنهم يوقفوا الضرب، وقتها نزلتلي صورة في جريدة الوفد وأنا ماسكة طوبة وبرميها ناحية الجيش على أننا اللي بدأنا الضرب يعني، أتقال عليا بلطجية بس لو أنا بلطجية عشان بنزل أطالب بحقي يبقى أنا فخورة بأني بلطجية".
تسكت برهة، وتكمل سردها قائلة : "اليوم عدى، صحيح كان صعب، بس اللي حصل تاني يوم كان أصعب بكتير بالنسبة لي، تاني يوم وصلت شارع القصر العيني، وقتها أصدقائي بلغوني أن شاب زميلنا اتصاب برصاص، فجريت عشان أركب المترو، وفي طريقي لمحطة سعد زغلول لقيت عساكر جيش وظباط واتقبض عليا على الرغم من أن المكان كان بعيد عن الأحداث، وأخدوني لمبنى مركز المعلومات".
كان عقارب الساعة تشير لوقت الظهيرة، خوفاً ممزوج بتحفز مما سيكون سيناريوهات عدة؛ قد تكون دارات في مخيلتها، لكن كلها بنهايات مفتوحة وغامضة "في ايه! في ايه!".. كلمات ظلت ترددها "هدير" حتى طلب منها الضابط بطاقتها، وقتها علم أنها من المنصورة، وسأل السؤال التقليدي "إيه اللي جابك هنا؟"، هنا فقط بدأت تستجمع شجاعتها وحسها الثوري وردت قائلة: " جاية عشان شغلي، وعشان ليا مطالب" .
"أنتو مين أنتوا عشان تطلبوا ولا تتكلموا، عاجبك اللي بيحصل ده أنتوا عايزين تولعوا البلد؟".. كان رد الضابط عليها محفز لتكمل حديثها عن ما تؤمن به من حقوق ومطالب، لينظر الضابط لها ويقول" دا أنتي موالك طويل".
مرت دقائق أو ساعات فهي لا تعلم على وجه التحديد، حتى جاء أشخاص "زي اللي بنشوفهم في الأفلام" على حد تعبيرها، رجلين ضخمين بملابس مدنية ماسكين بيديهم صواعق كهربية، و3 عساكر بعصي، هنا تملك هدير الخوف، لتحكي عن هذه اللحظة قائلة: " كنت لوحدي وكنت خايفة جدا وخصوصاً أن الظابط كلامه معايا كان فيه تهديدات رعبتني، عشان كدا وافقت أو اضطريت أني أوافق على أنهم يسجلولي فيديو، وفعلا سجلوا معايا، وكان المقصود منه أنهم يظهروا المتظاهرين على أنهم مُسيرين، وفوضوين وأنهم اللي اعتدوا على قوات الجيش" .
"بعد ذلك كنت على موعد مع تصوير فيديو جديد، ولكن هذه المرة بعدما أحضر الظابط لي رز بلبن، وسندويتشات، ونسكافيه، وأجلسني على المكتب بعدما كنت أجلس على الأرض، ليصور حسن معاملة الظباط مع المعتقلين".. قالتها "هدير"، مشيرة إلى أنه على الرغم من المعاملة السيئة وأسلوب الكلام المليء بالتهديد وإجبارها على تسجيل فيديو تحت التهديد - على حد زعمها - إلا أنها أكدت عدم تعرضها لأي إهانة جسدية، أو عنف جسدي وضرب، ومع حلول الساعة العاشرة مساءاً، كان والدها قد وصل من المنصورة بعدما هاتفه الضابط لكي يحضر ويتسلم ابنته.
"خرجت من هناك، وذهبت إلى منزلي، صحيح كانت أعصابي تعبانة، بس قررت أني هنزل تاني يوم عادي، وفعلاً نزلت وطلعت كمان في برنامج الإعلامي وائل الإبراشي، وحكيت اللي حصل معايا".. هكذا روت "هدير" حكايتها التي عاصرتها في أحداث مجلس الوزراء . "يمكن يكون هزني اللي حصلي بس أنا قررت أني أكمل بعدها، مش أنا بس ف"فتاة التحرير" كما عرفت إعلامياً والتي أعرفها شخصياً، على الرغم مما تعرضت له، إلا أنها نزلت معانا بعد ذلك أكثر من مرة، فهذه الفتاة لديها إصرار وجرأة غير عاديين، فيكفي أنها وقفت يوم الاعتصام صارخة في وجه اللواء حمدي بدين قائلة: "أنتوا بتعملوا فينا كدا ليه؟" .
وتنهي "هدير" حديثها لتجد أن الإصرار والحماسة ليست حكراً على الرجال فقط ففي مصر تجد أن الفتيات لهم تركيبتهم المختلفة، وهو ما جعل والديها فخوران بما تصنعه ابنتهما، ويقررا مشاركتها في النزول في المسيرات.