تقول القاعدة التى توارثناها عن أجدادنا إن العبرة بالخواتيم، لكن خواتيمنا كلها دم ودخان ونار وشهداء ومصابون ومولوتوف وحجارة، منذ اندلعت المواجهات التى نسبت إلى طرف ثالث يعرفه المجلس العسكرى ولا يريد الإفصاح عنه.. حدث هذا فى أحداث البالون ثم ماسبيرو ثم محمد محمود وربما ليس أخيرا مجلس الوزراء، ففى كل هذه المواجهات ظلت البداية لغزا مستعصيا على الفهم والحل. عندما وقعت أحداث مجلس الوزراء وامتدت إلى شارعى الشيخ ريحان وقصر العينى، كان السؤال الذى يطرح نفسه ولا يجد إجابة: كيف اندلعت الشرارة الأولى؟ وحتى المشهد الختامى الذى انتهى بطن من الأسلاك الشائكة يحيط الشوارع المؤدية إلى وزارة الداخلية، وحائط خرسانى يغلق شارع قصر العينى من جهة ميدان التحرير، ويفصل بين عالمين مختلفين متواجهين: ثوار غاضبون، وجنود غاضبون. لم يكن عددهم فى الميدان كثيراً، بل كانوا متناثرين فى التحرير وحول الحواجز المسلحة الخرسانية، يتشكلون فى جماعات ويتحدثون مع المارة الذين يستوقفونهم، البعض يسأل عما حدث وما سيحدث، والبعض الآخر يؤكد لهم أن مصر أهم وأكبر من الخلاف، وآخرون ينظرون إليهم ويتساءلون عما إذا كانوا بلطجية كما يتردد. تتوه وسط الحديث والناس، وتعجز عن متابعة ما يحدث إلى أن تجد شاهد عيان على ما حدث منذ فجر الجمعة 16 ديسمبر. محمد كمال.. هذا هو اسمه، حينما سألنا عن شهود عيان لأحداث شارع مجلس الوزراء أشاروا إلى محمد الذى لا يتجاوز عمره 25 سنة. عرفنا منه أنه كان أحد المعتصمين فى شارع مجلس الشعب. روايته عن الأحداث تنفى قصة الكرة التى دخلت مجلس الشعب ورواها الإعلام والمجلس العسكرى، وتؤكد حكاية الاحتكاك بالضابط كما رواها قائد المنطقة، ولكن بتفاصيل أخرى. يسرد محمد بداية الأحداث قائلاً: ''كانت هناك سيارة وبها ضابط يرتدى ملابس مدنية تقف خارج مكان الاعتصام، اقترب منها عبودى وسأله عن سبب تواجده وكلمة من هنا وكلمة من هناك اشتبك الضابط وعبودى، فاتصل الضابط بالقوات المتواجدة فى شارع القصر العينى، فحضرت مجموعة فكت الاشتباك وأخذت عبودى معها. كان من الواضح لنا أن عبودى سيتعرض لموقف صعب، ولم يكن أمامنا سوى التجمهر والطرق على أعمدة الإنارة والهتاف ضد المجلس العسكرى ليطلقوا سراح زميلنا. وبالفعل أخرجه لنا الضابط ولكنه كان فى حالة يرثى لها والدماء تسيل على وجهه، ساد الغضب بيننا واشتعل الموقف. يقول كمال: ''أعتقد أن ما حدث كان متعمداً، فالجيش فى تلك المنطقة يرانا نأكل ونلعب كرة ونعزف على الجيتار وهو يقف أمامنا فى كامل استعداده وهيئته ونحن لا نبالى به. فقرر أن يفعل ما فعل لتصعيد الأحداث سعياً لفض الاعتصام الذى طال بالنسبة له.. وعقب خروج عبودى من احتجاز الجيش مضروباً والدماء تسيل على وجهه اشتعلت الأحداث ولم يعد أحد يفكر من المعتصمين سوى فى الثأر، فبدأوا فى إلقاء الطوب والحجارة على الجيش بعنف''. ويضيف: ''خلعنا حجارة الأرصفة ورخام السور المحيط بالمجلس.. كنا نشعر بالإهانة والغضب وألقيناها عليهم وهم ردوا بمثلها واستعانوا بقوات إضافية جاءت لتضرب معهم وأخرجونا من شارع مجلس الشعب لشارع قصر العينى، ورغم توافد المزيد من المتظاهرين علينا فإن العنف استمر من جانب الجيش. وبدأ الجنود فى ضربنا ومطاردتنا بالعصى والجرى خلفنا حتى تقاطع الشيخ ريحان مع قصر العينى. وفجأة شاهدنا أفرادا فوق المبانى الممتدة من مجلس الوزراء وحتى فوق المجمع العلمى، كانوا يلقون علينا كميات مجمعة من الطوب والرخام والحجارة وكان من يقع منا على الأرض تنقله الموتوسيكلات للمستشفى الميدانى عند عمر مكرم، دون أن نتساءل عما حدث له، هل أصيب أم مات. لم يكن لدينا وقت لفعل ذلك. ثم وجدنا أفراداً آخرين يمسكون بخراطيم مياه ضخمة فتحوها علينا من مكانهم فى الحديقة الملاصقة للمجمع العلمى فى الشيخ ريحان''. وبرؤية أفقية راحت نيرفانا سامى تروى القصة من زاوية مختلفة: صباح الجمعة 16 ديسمبر، استيقظت على صوت اشتباكات شديدة وصراخ فى شارع قصر العينى. كانت تقضى الليلة عند صديقة لها تسكن فى عقار مواجه لمجلس الوزراء، رأت المشهد كالتالى: المعتصمون ولم يكن عددهم يتجاوز 100 يهتفون ضد المجلس العسكرى، فجأة برز طفلان ما بين 12 و15 سنة، راحا يستفزان الضباط بحركات مبتذلة ويطلقون عليهم وابلا من السباب والشتائم، لحظات واختفيا عن الأنظار، وعلى الفور تحرك قرابة 8 صفوف من الشرطة العسكرية ناحية المتظاهرين، وبدأوا يعصفون بهم دون تمييز، وكان الجنود يضربون فى الرأس، وفى كل أجزاء الجسم دون التفريق بين شاب وفتاة، واستمرت الاشتباكات طوال اليوم وبدأ إلقاء المولوتوف والحجارة على الجيش فى عمليات كر وفر بين الطرفين. وصلت ماجى أسامة إلى منطقة الأحداث قرابة التاسعة صباحاً. وبحسب روايتها كان أفراد الجيش يقفون على سطح أحد مبانى مجلس الشعب، فوق لافتة تقول ''الديمقراطية هى توكيد سيادة الشعب''، وكان معهم آخرون يرتدون ملابس مدنية، وكانوا يلقون أطباقاً وحجارة وزجاجاً مكسوراً، ثم رأيتهم يلقون ''دولاب'' علينا، فيما كان المتظاهرون يحاولون يأسا أن يبادلوهم الرشق بالحجارة، لكن المسافة كانت بعيدة. وفى لحظات اختفى الأفراد الذين كانوا يرتدون الملابس المدنية من فوق المجلس، فتوقف الضرب، وكنت حينها مع الناشط نور أيمن نور، لكن المتظاهرين لم يتوقفوا عن إلقاء الحجارة على زجاج مجلس الشعب من ناحية شارع قصر العينى، وشاهدت حينها أحد المواطنين يقف داخل حديقة المجلس ويشعل زجاجة مولوتوف ويلقيها من النافذة، فيما كان البعض يحاول اقتحام سور الحديقة، وكسر القفل للدخول، وسعيت حينها مع بعض النشطاء لإقناع الناس بالتوقف عن هذا والعودة إلى الميدان لكنهم رفضوا وهاجمونا، وقالوا إن ما يفعلونه ليس فعلا بل هو رد فعل لانتهاكات الجيش، وظل الوضع مستمراً على هذا المنوال. وهنا يتدخل نور أيمن نور: وصلت إلى مجلس الوزراء صباح الجمعة، وجدت الضباط والعساكر يلقون الحجارة من فوق المبنى الإدارى التابع لمجلس الشعب، وكان المتظاهرون أسفل المبنى يردون عليهم لكن الحجارة التى كانوا يلقونها كانت لا تصل، فيما كانت الإصابات تزيد والمستشفى الميدانى يمتلئ بالمصابين نتيجة كسر الرخام والأطباق والدواليب والكنب التى كان يتم إلقاؤها، كل هذا أشعل غضب الناس الذين استمروا فى اعتصامهم السلمى قرابة أسبوعين، التزموا فيه بكل قواعد الاعتصام والتظاهر السلمى والقانونى، ولم يمارسوا أى أعمال تخريبية، إلى أن بدأ مجموعة من الشباب فى ملء زجاجات المولوتوف وإلقائها على المبنى الإدارى الذى يقف فوقه جنود الجيش بعدما راحوا يستفزونهم بحركات خارجة، وحاولوا بالفعل كسر البوابة واقتحام المبنى، لكن الجيش عمل كماشة على المتظاهرين وبدأ فى سحلهم وضربهم وساعتها أنا أتقبض عليا ودخلت مجلس الشعب''. وتروى الطبيبة فريدة الحصى شهادتها على صفحتها الخاصة بموقع الفيس بوك: ''عرفت أن فيه مستشفى ميدانى اتعملت عند السفارة الأمريكية وأنهم محتاجين دكاترة ومساعدات علشان فيه إصابات كتير بسبب الحاجات اللى الجيش بيحدفها من فوق، فقررت أنزل علشان أساعد. وصلت الساعة 10 صباحاً ومشيت ناحية شارع القصر، ووقفت شوية مع ناس بيتكلموا على اللى حصل وإن الجيش هو اللى ضرب عبودى. دخلت جوا وكان الطوب اللى بيتحدف من فوق المبانى من الجيش أكتر وشباب وأطفال كتير ما كانوش خايفين وبيحدفوا طوب على ضباط الجيش اللى واقفين فوق المبنى بس طبعا ما كانش بيوصل. كان فى ناس تانية بتحدف طوب تكسر شبابيك مبنى داخل مجلس الشعب، وكان فيه غرفة كهرباء كده طالع منها دخان بس مش عارفة مين اللى ولعها''. وتكمل فريدة: ''العساكر فوق المبنى كان فيهم لابس بدلة ميرى وكان فيه عساكر، وكان فيه لابس مدنى وواحد لابس زى فانلة سودة كده. المهم كانوا بيستفزوا الناس بحركات قليلة الأدب فالناس كانت بتشتمهم وتهتف ضد المجلس العسكرى. وصلت ناحية المستشفى شفت الناس متجمعة ومنهم أسماء محفوظ بيحاولوا يقنعوا الناس ترجع على الميدان لأن عدد المصابين كتير وكفاية دم كده. وللأسف كان فيه ناس ابتدوا يولعوا فى الدور الأول لمجلس الشعب بعد ما فكوا السور الحديد وقدروا يدخلوا. المهم المعارضين لفكرة الرجوع إلى الميدان كانوا كتير وبعد كده الناس اللى بتهدى دى مشيت والجيش بطل ضرب من فوق وفوجئنا بهجوم قوات الجيش علينا، كانت قوات المظلات. كان فيه منهم ملثمين وكانوا معاهم عصيان سوداء كبيرة شبه السيف شوية أو الكرباج. وأنا باجرى لقيت سيدة عجوز يمكن أواخر الخمسينيات واقفة خايفة. رجعتلها وقلتلها أجرى قالتلى لا خلينا واقفين ما تخافيش قعدت أشدها وأقولها إجرى إجرى لحد ما عسكرى جرى ناحيتى وكان هيضربنى، الست رجعت لورا شوية وأنا كملت جرى ولقيت شوية عساكر سبقونى بيجروا ورا ناس تانية ساعتها عرفت إنهم هيمسكونى. وجه عسكرى ضربنى على ضهرى وقعت والتف عليا 6 أو 7 عساكر جيش قعدوا يضربوا فيا بالعصيان اللى معاهم والشلاليت وبأيديهم، ونور أيمن نور، كان بيجرى قدامى لما لقاهم اتلموا عليا رجعلى وقلهم دى بنت ما تضربوهاش فقعدوا يضربوه وبعدين مسكونا إحنا الاتنين وشدونى من شعرى وواحد كان مسكنى من شعرى والباقيين ماشيين معاه بيضربوا برضه زى ما يكونوا ما صدقوا مسكوا حد''. وتحكى فريدة: ''دخلت مبنى مجلس الشعب واعتدوا على بالضرب مرة تانية بالداخل وقعد يقولى الضابط انتوا فاكرين نفسكوا إيه فاكرين إنكم هاتكسرونا! إحنا أسيادكم! ماكنتش بأرد ولا بعيط فابتدا يحاول يتحرش بيا ساعتها زقيت إيده وقلت له يحترم نفسه! دخلونا مبنى كده ودخلنا فيه مكان فى ناس تانية زينا وضباط جيش كتير. قعدونا فى الأرض كان فيه واحد دماغه فيها جرح ووشه مليان دم وبيعيط جامد. طلبوا مننا البطايق إديتهم كارنية النقابة، لما عرفوا إنى دكتورة قعدوا يقولولى جايه تعالجى الثوار؟ بمنتهى الغل بس مارديتش عليهم علشان هما بيستفزونى.. بعد ما طلعونا قعدت على الرصيف، ناس كتير اتكلمت معايا وسألتنى على اللى حصل وقعدت تهدى فيا. قابلت ناس قالولى لازم أوثق الحالة فى مركز هشام مبارك أو النديم وأعمل محضر وفجأة الجيش هجم تانى علينا. أنا اتخضيت ومعرفتش أروح فين وقفت مكانى ما كنتش عارفة أجرى علشان مش قادرة أمشى على رجلى وكانوا هيجيبونى هيجيبونى. وبعدين لاقيت ناس واقفة وقفت معاهم عند سفارة أمريكا، مكان المستشفى الميدانى اللى هدوه، وفضلنا مش عارفين نروح فين. فضلوا يشتمونا ويهينونا تانى وفيه بنت جاتلها حالة هلع وقعدت تصوت بهستيريا. بنات تانية قعدوا يهدودها. لاقيت راجل دماغة مفتوحة قالى إنتِ الدكتورة اللى كنتى محبوسة معانا جوة وابتسم وارتاح لما شافنى، العساكر اللى على يمينا قعدوا يلقفونا للى على شمالنا ولا دول عايزين يعدونا ولا دول عايزين يعدونا. جه واحد بلبس مدنى تبعهم قالهم طلعوهم ناحية الضرب يستاهلوا. فى الآخر قرروا يمشونا من ناحية الجامعة الأمريكية علشان نروح مستشفى كنيسة قصر الدوبارة''. فى الوقت الذى وصل فيه الناشط الإلكترونى أحمد العش، كان عشرات المصابين قد سقطوا، وكانت سيارات الإسعاف تنقل متظاهرين يعانون إصابات خطيرة، ويقول: ''سمعنا حينها أصوات ضرب نار، كان الجنود قد هجموا من عدة اتجاهات مرة واحدة وانسحبوا فجأة، وكانت الإصابات تتزايد بشكل كبير، وبعدما يئس الناس من إمكانية الرد من خلال الحجارة بدأوا فى إلقاء المولوتوف، وشاهدت حريقاً يشب فى أحد طوابق (هيئة الكبارى) وبعدها اشتد الضرب من أعلى مجلس الشعب، وحاول الناس التهدئة، لكن الجنود واصلوا استفزازهم لنا بالإشارات والأفعال المخلة، إلى أن حدث الهجوم الثانى، وقام الجيش بعمل (كماشة) مرة ثانية، وتم سحل عدد كبير من المتظاهرين والاعتداء عليهم بوحشية، وهنا حصلت واقعة الاعتداء على الفتاة اللى تم تعريتها وضربها أحد الجنود بحذائه فى صدرها''. يواصل العش: ''اتجهنا إلى كوبرى قصر النيل أنا ومجموعة من أصحابى، وبعد صلاة الجمعة خرجنا من مسجد عمر مكرم، وتم إطلاق سراح مجموعة من المحتجزين بعدما هتفنا ضد المجلس والجيش، وتم إخراجهم على 3 دفعات''. يرى ''العش'' أن من ألقوا المولوتوف هم ثوار مخلصون ومواطنون شرفاء من طبقات الشعب المختلفة، كانوا قد أصيبوا بالعجز والقهر بعدما أطلق الجيش الرصاص الحى والخرطوش على صدور الثوار، وبالتالى، وبحسب العش، فإن المولوتوف أصبح سلاحهم الدفاعى الوحيد ليس لإحراق البلد، ولكن لإجبار الجنود على النزول من المبانى التى اتخذوها حصونا ليقهروا من فوقها الشعب. تتدخل نيرفانا سامى مرة أخرى قائلة إن يوم السبت لم يكن يوماً هادئاً، فقد استمرت المناوشات والاشتباكات بشكل عنيف بين الطرفين، وزاد عليه أن الجنود كانوا يسحبون المتظاهرين ناحيتهم، وبدأوا يسألون البوابين عن السكان ويجبرونهم على عدم النزول، وأحاطوا البيوت المجاورة لمجلس الوزراء، وكان من يخرج من بيته يتم القبض عليه، عدا البيوت التى يسكنها أجانب، ثم بدأت عمليات إرهاب المواطنين عن طريق ضرب رصاصات الصوت.