استطاع الراحل العظيم الدكتور جمال حمدان في كتابه الرائع " شخصية مصر / عبقرية المكان " أن يحرك العقل المصري البحثي ليغوص وراء تلك التركيبة المعجزة والشديدة الخصوصية والتفرد للإنسان المصري ، وقدرة المكان على تذويب من يعيش فيه ودمجه أيا كان جنسه بسمات هذه الشخصية حتى ولو كان غازيا يملك القوة والسلطان. إن الجذور التاريخية للإنسان المصري الذي عاش في وادي النيل منذ آلاف السنين تكونت من هجرتين عظيمتين نزلتا الوادي حين جفت مناطق حياتها وتحولت إلى صحراوات جاءت إحدى الهجرتين من الصحراء الغربية والثانية من شبه الجزيرة العربية عبر سيناء وبتزاوج هاتين الهجرتين نشأ الإنسان المصري القديم الذي اخترع الزراعة واكتشف الفخار وانتقل من العصر الحجري الحديث إلى عصر الحضارة الزراعية المستقرة التي أسهمت في صنع شخصية متميزة ترتبط بالأرض بالحقل بالكوخ بالقرية بالبيت بالمدينة ثم بالمقاطعة أو الإقليم فالدولة وكان الموقع الجغرافي لوادي النهر المحروس بهضبتين هما الصحراء الشرقية والصحراء الغربية يعطي ساكن الوادي إحساساً بالأمان ومساحة للإنذار بالخطر وعاش المصري لمئات السنين في محمية طبيعية ليس له عدو سوى الحيوانات المفترسة كالتماسيح وفرس النهر واستطاع أن يستأنس الكثير من الحيوانات التي استغلها في الزراعة والري والصيد ، وحين تطور مجتمعه إلى الدولة المركزية بعد توحيد القطرين قبل ستة آلاف عام كان قد اكتسب سمات شخصية شديدة العمق قادرة على التأثير محصنة ضد التأثر وظهرت قدرة الإنسان والمكان في استيعاب وهضم أي جنس دخيل وتحويله إلى مصري في الطباع والتأثير في الآخر والتفكير والسلوك ، وصنع حضارته الأسطورية فاخترع الكتابة وبنى الأهرام ونحت التماثيل وشيد المعابد واكتشف أساسيات العلوم في الفلك والهندسة والطب والعمارة والأدب والفن والدين والحكمة مما شكل تراكماً هائلاً للمعارف والخبرات وقد توالت على مصر الغزوات الخارجية من الهكسوس والفرس والإغريق والرومان والعرب ولم تستطع أي منها أن تؤثر في الشخصية المصرية أو تصبغها بصبغة أجنبية غريبة على الشخصية الأصلية التي تعمقت داخل المصري لآلاف السنين بل صبغت مصر غزاتها بشخصيتها وأسلوبها وفكرها وفنونها فعادة مصر تقهر قاهريها كما قال أمير الشعراء ، فقد قلد الهكسوس المصريين فتسموا بأسمائهم ولبسوا لباسهم وكونوا أسراً فرعونية حاكمة هي الأسر 15 ، 16 ، 17 وكذلك فعل الإسكندر الأكبر وخلفاؤه من البطالمة الذين تمصروا فكراً وسلوكاً وعقيدة أيضاً ، ولم يستطع الرومان بثقافتهم المسطحة وطباعهم العسكرية أن يتركوا في مصر تأثيراً يذكر رغم امتداد سيطرتهم على مصر لأكثر من ستة قرون شهدت اعتناق المصريين للمسيحية ودخولهم في صراع فكري وعقائدي مع الغزاة الرومان انتهى بانتصار الشخصية المصرية وتميز كنيستها المرتبطة بشخصية مصر وتاريخها عن الكنيسة الرومانية في روماوالشرقية في القسطنطينية ، وبدخول العرب والإسلام مصر انتقلت قبائل عربية كاملة خلال القرون الثلاثة الأولى إلى مصر وتحولت مصر لغة وعقيدة من القبطية إلى العربية ومن المسيحية إلى أغلبية مسلمة ولكن الشخصية المصرية الشديدة التميز والقوة فرضت وجودها لغة باللهجة العامية المصرية التي تحمل سمات كل اللغات التي تحدث بها المصريون عبر تاريخهم ففيها مئات من مفردات اللغة الفرعونية القديمة والكثير من مفردات اللاتينية والفارسية والتركية والإنجليزية والإيطالية واليونانية إلى الأساس العربي بالطبع فخرجت تحمل الشخصية المصرية بتاريخها وثقافتها وقدرتها اللانهائية على السخرية والفكاهة وتراثها اللفظي والأدبي الذي يحمل طباع وسمات الإنسان المصري ، كما فرضت الشخصية المصرية وجودها عقيدة بذلك الفهم السمح المستنير لحقيقة الإسلام وجوهرة وأخلاقياته ووسطيته ، بفهم ووعي مختلف عن إسلام البدو وتنطع المتطرفين أو تهاون المتسببين وأثمرت مؤسسة الأزهر الشريف أجيالاً من أصحاب الفكر المستنير المتفتح الواعي حتى في أشد العصور جهلاً وظلاماً وصار الإسلام المصري صورة مشرفة مشرقة لخاتم ديانات السماء أسهمت برؤيتها الوسطية ومرونتها في انتشار الإسلام في العصر الحديث في أوربا والولايات المتحدةالأمريكية والأمريكتين ، وكانت البعثات التي ترسلها الجاليات الإسلامية والأقليات المسلمة إلى الأزهر الشريف خير سفير لنشر الإسلام المشبع بالشخصية المصرية إلى كل أنحاء العالم ، وستظل الشخصية المصرية مهما حاول غزاة الفكر هي الأقوى والأقدر على التأثير ، وموجة التأسلم المستوردة من الإسلام البدوي التي تنتشر اليوم في مصر ظاهرة مؤقتة سوف تنهار وتذوب في الشخصية المصرية التي نجحت مع غيرها من الغزوات الفكرية والثقافية والعقائدية عبر العصور وصدق شاعر النيل حين قال على لسان مصر: كم بغت دولة علىّ وجارت .. ثم زالت وتلك عقبى التعدي هيام محي الدين