لكي تنطلق مصر الجديدة لتتبوأ مكانتها اللائقة, نحتاج لترجمة العبقرية المصرية الفريدة, ولتحديد رسالتها, واستجلاء سماتها. ولمصر سمات جغرافية عبقرية; فحضارتها نهرية متدينة منذ آلاف السنين حباها الله بنهر رتيب وصحراء جافة أظهرت خصوصية الوادي الخصيب. وهي في طريق الذاهبين من وإلي أي مكان لوقوعها جغرافيا في تقاطع الطرق بين الشرق والغرب والشمال والجنوب. كل ماعداها في آسيا وأوروبا وأمريكا لايذهب إليها إلا من يقصدها تحديدا. وكانت بسبب موقعها الفريد قبلة الغزاة من كل جنس ولون(41 غزوة علي مر التاريخ). فغزاها الفرس والفينيقيون والإغريق والرومان والأوروبيون والعرب. لكنها استطاعت بعبقريتها امتصاص كل أمواج الغزاة علي اختلاف أجناسهم وأعراقهم وألوانهم. فجذبهم الوادي الخصيب بطقسه المعتدل ثم مزجهم وتمثلهم, وحولتهم الطاحونة المصرية إلي مجرد مصريين. وهكذا تكون إنسان مصري عبقري, لايستغرب الغرباء, ويشعر تجاههم بود غريب; فهم ليسوا أغرابا تماما عن المصري الذي امتزجت في دمائه كل الأعراق. فتكوين مصر الوطني غني بكل الروافد التي جاءتها من كل مكان مع الغزاة والتجار والمسافرين واللاجئين, ولهذا أصبحت الوسطية والاعتدال جزءا لايتجزأ من طبيعة سكان هذا الوادي. كان صعيد مصر ملجأ آمنا للمسيحيين الأول الفارين بدينهم من اضطهاد الرومان. وعندما دخل الإسلام مصر, أفرزت مصر تجربة إسلامية فريدة في التسامح والاعتدال والوسطية بنكهة متميزة. وتمثل هذا الشعب المتدين الإسلام وشرائعه وأعادوا انتاجها حضارة وطريقة حياة متميزة وغنية وفريدة. فبها منارة الإسلام السني وأهلها في نفس الوقت من أكثر المسلمين حبا لآل البيت. وهم خير أجناد الأرض; لأن فيهم صبرا ومثابرة ورحمة وألفة مع الغرباء, وقدرة علي الاحتمال بسبب الطبيعة الصحراوية الغالبة علي الأرض المصرية, رغم ميلهم الفطري للسلام والدعة بحكم اشتغالهم بالزراعة بمياه نهر رتيب السريان. كما حبا الله مصر الحديثة بأجيال فتية تمثل ثلثي عدد المصريين في وقت يعاني الغرب شيخوخة تهدده بالانقراض. والشباب هم صناع المستقبل, وأول مستقبل صنعوه بجهدهم ودمائهم هو مصر ثورة25 يناير المباركة. الحضارة المادية الغربية مزيج من الوثنية الرومانية والمسيحية بعد مأسستها وإخضاعها للدولة. ثم كانت الثورة علي الكنيسة الغربية ومرجعيتها وظهور الفكر الحداثي, الذي تطور إلي نفور من أي مرجعية( فكر مابعد الحداثة) بحيث أصبح الحق نسبيا ووجهات نظر, وزاد اغتراب الغرب عن الله. ووضعت نظريات في القرن التاسع عشر باستخدام قشور العلوم والتكنولوجيا لتفسير الكون وأصله المادي وظهور الكائنات والإنسان دون إله وكذا لتنظيم الحياة فيه( الداوينية وعلوم الاجتماع والاقتصاد...). لكن تطور العلوم الحديثة دلل علي وجود الخالق واكتشف عظمة قدرته. وانهارت الشيوعية بلا رجعة, وبدأت تظهر للبشرية حقيقة الرأسمالية كنظام غير قابل للاستمرار, يركز الثروة مع النخب علي حساب الجميع, وينشر الظلم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في عالم توالت عليه الأزمات. إن العالم يعايش انهيار شرعية الفكر الرأسمالي الليبرالي برمته, وفي عقر داره! وأصبح يعيش حالة خواء فكري وانهيار منظومي تتململ معه الإنسانية شوقا للعدالة والحرية الحقة.وأسقط تطور الاتصالات والمواصلات الحواجز وأزال الغربة بين البشر, وأسهمت أحداث سبتمبر( الملفقة) في وضع الإسلام والمسلمين في دائرة الضوء وفرض الاهتمام بهم. وأرغمت الأزمة السكانية الغرب علي استقدام مهاجرين مسلمين, بما أدي لظهور حركات التعريف بالإسلام ودراسته. ولم يحدث أن نما الإدراك الإنساني العام بالحرية والمساواة والعدل كما هو الآن. إن حالة الخواء الفكري والانهيار المنظومي للغرب تمثل حالة تاريخية فريدة. كانت البشرية حبلي بالاحتقان من طول المعاناة وتتوق إلي لحظة المثال. ولم يخطط لثورة25 يناير المصرية أو يتوقعها أحد, وكانت بلا قيادة أو زعامة, فأصبحت لهذا المثال الذي يستلهمه الجميع. حيث نادت بما يتوق العالم له ويجمع عليه( الحرية والعدالة والعيش الكريم...). كانت بحق حدثا ربانيا بعث الروح في الإنسانية المظلومة, وأطلقها من قيودها. فانكسر حاجز الخوف وأحس الجميع بالقدرة علي التغيير. وسرعان ما انتقلت المظاهرات والاعتصامات إلي كل الميادين الأوروبية والأمريكية في أكثر من1000 مدينة احتجاجا علي رأسمالية النخب والظلم الاجتماعي وحروب السيطرة, استلهمت كلها ماحدث في ميدان التحرير. إن العلاقات الإنسانية تحتاج للتخلص من سلطان نظرية الصراع الغربية كنموذج تفسيري لكل علاقة بين طرفين, وإلي تعاون وتناغم وتفاهم ما أمكن. وحضارتنا الإسلامية لاتعرف الأقليات بالمعني الغربي للكلمة, وتاريخنا شاهد علي هذا. فكل مجتمعاتنا تموج بالتنوع من كل جنس ولون ومذهب وعقيدة وعرق. في حين أبيدت الأقليات عند غيرنا علي مر التاريخ فاختفت, أو ذابت ثقافيا, أو عاشت منبوذة في جحور كالجيتو اليهودي. والفرقاء في الغرب لايتعايشون معا في سلام حرج أشبه بالتربص إلا إذا نحوا الدين جانبا. ولدينا من القيم والفضائل الدينية والإنسانية والحضارية من تقديس لكرامة الإنسان وتكافل ومساواة وعدل واحترام للتعددية الدينية والثقافية واحترام للتنوع والاهتمام بتعارف الشعوب علي أساس الاحترام والتكافل والمساواة مايمكن أن نعطيه للعالم ويحتاجه العالم. يحتاج العالم الحديث إلي الوسطية ليتحقق التعارف والتكامل ويحفظ التنوع, وإلي استلهام الطبيعة المصرية التعددية ذات المرجعية القيمية الإيمانية المبنية علي الحرية واحترام الخصوصية الحضارية والكرامة الإنسانية. ونحن نحتاج العالم ونمد إليه يد المودة والتعاون لنأخذ منه النظم الحديثه والتقدم المادي. وتحقيق هذا التواصل الإنساني في نظري هو رسالة هذا الشعب العبقري. المزيد من مقالات د. صلاح عبد الكريم