حين رأيتها ، لم تكن لتلفت نظرى أو تجذب انتباهى، اختلتها شحاذة، وقد اعتدت رؤية أمثالها فى هذا المكان.. ليس لهم عمل سوى احتراف التسكع أمام المساجد.. علهم يستجدون عاطفة الناس بدعاء أبعد ما يكون عن الصدق، أو بدموع لا ترتبط بالإنسانية إلا بكونها تنحدر من العين..لا تهدف إلا إلى حث الأيدي على إعطائهم ما فى الجيوب. ولكن مع تكرار مرورى أمام مسجد السيدة زينب، بدأت أدرك أن ليس بها من الشحاذين سوى المظهر..فرأيت فيها انكسارا، جرحا، وأرقا مس قلبها قبل عينيها.. أبدا لم تكن تعابير زائفة من أجل المال ...شعرت أنها فى حاجة إلى شيء أغلى وأثمن من المال. ومع الوقت تلاشى داخلى خوفى منها كغريبة, ووجدتنى أبغى الاقتراب, أصبحتْ تمثل لي قوة جذب هائلة تدعونى لمعرفة ما يدور فى أعماقها ..فهى وإن كانت تحتل رقعة صغيرة أمام المسجد، فإنها تحتل مساحة كبيرة من عقلى وتفكيرى، فبدأت أبادرها بابتسامة مترددة خشيه أن تظننى أشفق عليها، وابتسامتى ما هى إلا انفراجة أولى لفمى لعلى أبث ما به من أسئلة تخشى الانطلاق، علها تجرح هذه المرأة وهى التى كسى وجهها الجرح. مر الوقت و إذا بى أنجح فى اختراق صمتها، وغدت من عاداتى اليومية أن أرتاد مجلسها، أتحدث معها وأستمع إليها بشغف لم أعتده فيّ، و كأنى أرتاد مجلس أحد الأدباء الذي يقتصر فيه دورى على الاستماع للقصص، بينما أحيا فى قصصها. وأكد ظنى الأول بها ما عرفته بعد ذلك، ودلّ عليه وجهها الملىء بالتجاعيد، وما هو إلا انعكاس لشيخوخة قلبها قبل الأوان، و جلبابها الأسود الذى استحال سواده من كثرة التخبط فى أرجاء الدنيا، وجلد قدمها الذي انتعلته بحثا عن ولدها الذى فقدته بين ليلة وضحاها حين جاءت لترتاد مقام السيده زينب، ولكن بعد أن فشل قلبها فى أن يهديها إلى من بيده استمرار نبضه، استقر بها المقام أمام المسجد، راجية مستنجدة بالسيدة زينب لتتوسط لها عند الله ليرجعه إليها. و استمر بها الحال هكذا سنوات وهى تنتظر عودة ابنها، دوما ناظرة إلى السماء بعين لامعة، لا أعلم أمن دموع مستقرة بها أم لمعان الاشتياق لولدها، وإدراكها أنها ستطمئن عليه.... ولكن... ترى إلى أين ذهبت ؟؟؟ انخلع قلبى حين رأيت مكانها فارغا! أتكون فعلتها؟؟....ففي الفترة الأخيرة دوما ما كانت تميل الى اليأس، و تدعو أن ينهى الله حياتها, لا..لا يمكن أن تفعل ذلك, فهى فى انتظار ولدها, حتى أن إحساسها بعودته انتقل إلى من قوة ايمانها بذلك. بحثت كثيرا عنها فلم أجدها...مرت سحابة سوداء أمام عينى، أرى خلالها مصيرها المجهول كولدها، و لكنها انقشعت حين لمحتها.. ترى أين كانت؟؟..اقتربت منها ..فرأيت شفتيها المتشققة تنفرج عن ابتسامة صافية أراها لأول مرة، حتى إن شفتيها دميتا, هرولت نحوها, وسألتها متوقعة سر ابتسامتها: "ابنك رجع لك؟؟ لقيتيه؟؟".. قالت: "رجع.. أنا كنت عنده" وانهمرت الدموع من عينيها..بدأت تنتحب وتدمع، وكأن شلالات من المياه قد فتحت، ومع هذا تتسع ابتسامتها و كأن فمها هو مستقر دموعها! ووجدتها تقص لي منامها الذى رأت فيه ولدها يتمتع فى جنات النعيم، وكلما تستزيد في الرواية تبتسم أكثر، وتبكى أكثر وكأنها تدعو كل العيون أن تبكى معها، فدموعها وحدها لا تكفى ..أبدا هذه الدموع لا يمكن أن تنم عن فرحة. فنظرت إليها مستفهمة، فنظرت لى قائلة: "أيوه رجع, رجع للمكان الوحيد اللي هبقى مطمنة فيه عليه, رجع للي اداهولي لما شاء و استرجعه لما شاء" كلمتنا – أغسطس 2009