كان آخر شئ أتذكره في هذه الليلة المشئومة أصوات كثيرة حولي، كلها توحي بالسخط والألم، وأنا نائم في سرير ضيق صغير، يتخلل جسدي عشرات الإبر الموصلة بالمحاليل والأدوية بجانب السرير، وتحيط بي عشرات الأجهزة الطبية المعقدة. استطعت بعد جهد كبير وصراع شرس بيني وبين هذه الغيبوبة - التي كشرت عن أنيابها لتمزقني إرباً- أن أميز هذا الصوت القادم من جهاز بجانبي، واستطعت -بخبرتي القليلة في المجالات الطبية - أن أعرف أن هذا هو جهاز قياس نبض القلب. كانت نبضاتي تتباعد وتتباعد، وبقلبي الهزيل -الذي قلما خشع لبارئه -وهو يهوى إلي اللاوجود... وإذا بي أرى عالماً عجيباً.. عالماً مخيفاً أرى فيه أجساماً سوداء قبيحة المنظر تحوم حولي، وتصب علىَّ لعناتها الأبدية، وإذا بأحدهم يتقدم نحوي ويمسك بتلابيبي، وأنا أقاوم في استماتة.. ولكن دون جدوى! بعد لحظات من المحاولات اليائسة المستميتة سمعت أصوات بكاء وعويل، أعرف أنها من وراء القلوب، وأعرف أن وراءها ابتسامات واسعة وضحكات مستفزة، إلا أن هذا الصراخ راح يمزقني إرباً.. وأنا بين يدي هذا الجسم الأسود الغريب الذي كان ينظر إلىَّ نظرة فيها شئ من الكراهية! مرت الساعات تلو الساعات وأنا لا أحس بماحولي، إلا بهذه الهمهمات غير المفهومة، والتي تخرج من أماكن لا أعرفها أو لا أستطيع رؤيتها، حتي شق هذا السكون صراخ النساء وبكاء الأطفال وبعض الرجال، وإذا بهم يحملونني على لوح كبير من الخشب بدا وكأن به مسامير تمزق ظهري.. ويدخلون بي مكاناً معتماً لا يشق ظلامه إلا بعض المصابيح التالفة المتهالكة! أحسست لبرهة أني أشم رائحة الموت حولي، وأنا لا أملك من أمري سوى الاستسلام لهذه الأيادي التي رفعتني ثم وضعتني في مكان ضيق مظلم، ثم أخذت تهيل علىَّ التراب، وشيئاً فشيئاً أخذ يختفي آخر شعاع واهن من نور الدنيا، لأدخل في غيابات سجن ضيق مخيف.. ولكن.. ماهذا؟! إن هذا المكان ضيق للغاية، لا.. بل إنه يضيق أكثر وأكثر، وظلامه الدامس، الذي يثير الذعر في قلوب أشجع الشجعان، يتسرب إلى داخلي! بدا كل شئ هادئاً مستقراً حتى شق هذا الظلام جسم قاس الملامح شديد السواد، أخذ يخطو نحوي بخطى هادئة مستفزة، وبدا هذا الشئ وكأنه ينظر إلىَّ بعينين يخترق لونهما الدموي شراييني، قبل أن يخترق الظلام، وبدأ الحساب العسير! فإذا بهذا الشئ المخيف يسألني عن صلواتي.. صلواتي.. ماذا؟! ''الصلاة''.. ''الصلاة''.. دارت هذه الكلمة في رأسي عشرات المرات، في الحقيقة كانت مئات المرات، حتي أنني نسيت كل شئ وتذكرت ''الصلاة'' -على خلاف ماكان يحدث في حياتي - وإذا بي أتذكر أنني كنت أبحث عن متعتي ونزواتي وأترك الصلاة! كان حساباً عسيراً، حيث إنني لم أفكر في حياتي أن يمكن أن أعانق السماء ثم أدفن تحت طيات الأرض في لحظة واحدة، وأنا لا أعرف كيف صمدت أمام هذا العقاب، أو كيف استطاع جسدي الواهن أن يحتفظ بشكله العام بعد كل هذا الضرب المبرح! مكث معي هذا العذاب في قبري سنوات لا أعرف لها عدداً حتى انتهى - لا بل توقف إلى حين. بدأت أحس بتآكل بين أحشائي، ثم امتد هذا التآكل إلي جسدي. مضى يوم أو بعض يوم، وإذا بي أتحول من إنسان بجسد، طالما انتزعته نزواته من بين يدي الرحمن، إلى عظام نخرة بالية! يثير منظري هذا الاشمئزاز، فما فكرت أبداً أن أتآكل، أو بمعنى أدق أن يمزقني كائن ضعيف عابث! كان وسط هذا الظلام الدامس ضوء واهن يبعث الدفء في جو قارس البرودة. اعتقدت للحظات أن هذا الضوء جزء من عملي الصالح، أو عملي كله، لكن لا! ففي حياتي كلها لم أفعل فعلاً صالحاً قط، بل كان عملي كله طالحاً سيئاً! لكن، ماهذا الضوء؟! جاءني مناديٍ في صدري أخبرني بماهية هذا الضوء.. إنه.. إنه دعاء أمي - رحمها الله - كانت تدعو لي وأنا ذاهب إلى المدرسة، كانت تدعو لي بأن ينير الله طريقي، وهى لا تعرف أني لست ذاهب إلى المدرسة، وإنما ذاهب إلى التجول مع أصدقاء السوء ومغازلة الفتيات! ويالحاجتي لدعائك الآن ياأمي! كنت خلال السنين التي مكثتها في هذا المكان وحيداً لا أرى شيئاً إلا بعض المحاسبين الذين جاءوا ليعذبوني ثم ينصرفوا، وكأنهم يريدون أن يخففوا عني عذاباً أشد! ولكن ذات يوم نظرت بجانبي فرأيت رجلاً آخر يدخل في القبر الذي بجانبي، وكانت الهوة التي بيني وبينه أوسع من أن تجعلني أتحقق في ملامحه. رأيته يدخل القبر، ولكن ما أثار إعجابي أنه كان يبتسم، وعندما أغُلق عليه القبر رأيت نوراً يشع من قبره، نوراً يضاهي نور الشمس في سماء الدنيا. أردت أن أسأله عن هذا النور، وبعد كفاح مرير مع ضيق نفسي وعدم قدرتي على الكلام استطعت أن أخرج بضع كلمات متحشرجة من فمي، وكأنها تأبى أن تخرج، ولكنها خرجت رغم أنفها. وسألته عن ماهية هذا النور الذي تخشع له القلوب، وتسر به العيون. فقال لي: إنه هو نور الإيمان الذي انبثق من قلبه ليضئ كل ماحوله! وياله من نور! ولكن فجأة اختفي هذا النور وكان ذلك بسببي أنا.. إذ انهال علىَّ الظلام بعد أن عرف أنه يجب ألا أرى النور ولو لحظة واحدة! فأنا لم أفعل شيئاً في حياتي أستحق عليه أن أرى النور. مرت السنون تلو السنين، وأنا لا أعرف كم سنة أو كم قرناً مرت على، وأنا هنا إنسان معذب وسجين، غير مرغوب في وجوده. سمعت ذات يوم صوت صور يعلو في السماء فيصم الآذان، ثم تلي هذا الصوت صوت أقوى يصدر من نفس الصور، ولكنه كان مختلفاً كثيراً.. ولكن.. ماهذا؟ إن عظامي تتحرك في سرعة، إنها تلتصق ببعضها البعض، عظام الأصابع تحتضن عظام الكف في سرعة، وعظام الساق تلتصق في عظام القدم والفخذ، وإذا بهيكلي المندثر يرجع مرة أخرى إلى أصله! رباه.. إن يدي يكسوها الجلد! ما هذا الذي أراه؟! أنا إنسان حي.. حي مرة أخرى! ولكن.. ماهذا؟ كل من حولي يهرولون في اتجاه واحد، وإذا بي أهرول معهم دون أن أعرف واجهتي. وجدت نفسي في مكان حُشر الناس فيه، وكأنهم قطرات من الماء في بحر عظيم، كل شخص يجري دون أن يعرف أين يذهب، كل إنسان يهرول بلا واجهة.. وجدت والدي يجري، فاستنجدت به وناديته طويلاً، فلم ينظر إلىَّ، وإنما واصل الجري وسط أمواج البشر التي تسير وكأن ريحاً عاتية تهز بحر البشر! رأيت الشمس لأول مرة منذ مئات السنين، ولكنها كانت قريبة جداً مني، كان بين رأسي ونيران الشمس المتوهجة قرابة الشبر، وإذا بعرقي ينزل على جبهتي كبركان ثائر تفجر في أرض المحشر. ولكن، ويلي! لقد وصل عرقي إلى ركبتي، وواصل الارتفاع بشراسة حتى وصل إلى خصري، ثم أكمل المسيرة حتى أصبح على قيد أنملة من صدري، ثم اندفع حتى وصل إلى عنقي، وأكملت جمرات عرقي المسيرة إلى رأسي، وإذا بي أغرق في عرقي!! حانت مني التفاتة إلى جانبي، فرأيت أناساً يمشون في وقار وخشوع، وقد لبسوا ثياباً بيضاء من حرير، وتحيط بهم مخلوقات من نور ذات أجنحة شفافة، تسير إلى حيث نسير، ولكن شتان بين حالهم وحالنا! ولكن مابالهم يسيرون هكذا؟ لم ألتفت كثيراً إلى هذا السؤال لأنني كنت قد وصلت إلى مكان عظيم واسع، وقف فيه البشر جميعاً منذ أن خلق الإنسان، كان بعضنا يبدو كأوراق الخريف وهى تتطاير أمام رياح عاتية، والبعض الآخر يسيرون في طريق مستقيم عليهم نضرة النعيم يقرأون أيات القرآن الكريم في تسبيح وتهليل، وأصواتهم تهز السموات والأرض. سمعت هؤلاء الناس يرتلون: ''اهدنا الصراط المستقيم...'' وأحسست برغبة عارمة في البكاء، ولكن الدموع أبت أن تنزل من عيني، ورأيت نوراً لم أر مثله في حياتي، كان نوراً يضئ السماوات والأرض ومابينهما، ورأيت الملائكة النورانية تأمرني بالسجود. ولكن ماهذا الذي يحدث؟! إن ظهري تصلب وكأنه من حديد، لا أستطيع السجود، لا أستطيع! حاولت بكل ماأوتيت من قوة ولكن هيهات! بعد برهة، رأيت الناس ينطلقون أفواجاً إلى بداية طريق طويل، كان لهذا الطريق ثلاثة أشكال، أحدها طريق واسع مريح، اصطف الملائكة على جانبيه يسبحون ويحمدون الله، وينبعث من جنباته نور وهاج رائع، فأدركتُ أنه الطريق الذي يسير فيه الأنبياء والرسل والشهداء والمؤمنون الأولون. أما الطريق الثاني فكان واسعاً كبيراً، ولكنه ليس بالعظمة والأبهة التي كان عليها الطريق الأول، ولم يكن عسيراً أن أعرف أنه صراط المؤمنين الآخرين، ولكن إيمانهم لم يكن كإيمان أهل الطريق الأول. وإذا بي أرى الطريق الذي سوف أسير عليه، أنا وجميع من معي من الضالين والمنافقين والكفار والمغضوب عليهم، فإذا هو شعرة معلقة حدها كالسيف يُسَيل الدماء أنهاراً من أقدام من يسيرون عليه، وإذا بمن أمامي يهوون إلى أسفل! فحانت مني نظرة إلي أسفل، فإذا ببحر عظيم من الحمم والنيران الملتهبة تفوح منه رائحة كريهة منفرة، من يهوي فيه تتلقفه الشياطين، وكان لونها أسود بشع تتلقف من يهوى إليها فتسقط به إلى أعماق الجحيم. أحسست أنني أفقد توازني وأوشك على الوقوع! لااااا! ونظرت إلى طرف الطريق فرأيت جنة فيحاء ملأتها أشجار الفاكهة، لونها يسر الناظرين، وشكلها يهدئ النفوس، ورأيت أرائك فسيحة واسعة من الذهب والفضة، تقف بجانبها فتيات باهرات الجمال ينظرن إلى الداخلين لهذا المكان في تودد ومحبة، رأيت كل هذا وأنا على وشك السقوط. ماهذا؟! إني أسقط...إني أهوى.. أهوى ى ى ى ى ى! وأحسست بكدمة في جنبي، ففتحت عيني فإذا بي ملقي على أرضية حجرتي المنسقة الغالية التكاليف، كنت قد وقعت من على السرير منذ برهة، ورأيت زجاجات الخمر وبقايا السجائر على المنضدة بجانبي.. وسمعت صوت ينادي: ''حي على الصلاة.. حي علي الفلاح'' فقمت من مرقدي ودخلت الحمام فاغتسلت وتوضأت وصليت الفجر، ثم أحضرت المصحف وقرأت قوله تعالى: ''أفحسبتم إنما خلقناكم عبثاً وإنكم إلينا لا ترجعون.'' (سورة ''المؤمنون''، أية ''511'' كلمتنا - يوليو 2001