لم يعد الأمر كابوساً بل أصبح حقيقة، وتقف على باب منزلها استعداداً للرحيل، لم تتصور أبداً أن يأتي يوم كهذا، لم تتوقع أن تأتي الطعنة منه. سيارة الأجرة تربض في قلب الشارع، تستعد لنقلها إلى حيث لم تتخيل أن تذهب، وهو يساعد السائق في نقل الحقائب وكأنه لايصبر على وجودها معه لثوان إضافية، و زوجته تقف بجوارها تحمل طفله مستمتعة بما يحدث، أما عنها هي فلم تعد مرغوبة. انتهى من نقل الحقائب ودفع للسائق أجرته، وناداها لتركب السيارة. ارتجفت قدماها وارتعشت شفتاها، لكنها تماسكت وصممت لا دموع الآن. لاتدري ماذا تفعل؟ هو لا يريدها معه، وهي تريد، لكن لا يصح أن تتوسل إليه للحصول على حق طبيعي. أمسك بيدها وكأنه يجذبها إلى داخل السيارة، وفي لحظة وجدت نفسها جالسة في السيارة المنطلقة، وهو يلوح لها من بعيد. حتى السائق يريدها أن تصل بسرعة، يريد أن ينهي تلك اللحظات، تملكها الذهول، فجاءة أصبحت عبئاً! فجأة أصبحت ضيفة ثقيلة تم الاستغناء عن خدماتها. تعلم جيداً أنه ماكان ليفعل هذا، هي تعلم اليد الخفية التي تحركه، زوجته الشابة تريد أن يصبح لها منزل مستقل، فلماذا لاتغادرهي المنزل التي عاشت به ثلاثين عاماً وتتركه لأسرة جديدة. نيران تحرق قلبها ، آهات محبوسة في صدرها، تزداد كلما مرت السيارة أمام ذكرى لها، هذه المستشفى القديمة مثلاً ، لم تكن قديمة منذ 30 عاماً عندما دخلته أول مرة تذكرت تلك الأيام وكأنها منذ دقائق.. اليوم الوحيد الذي شعرت بالفرح فيه يوم ولادة ابنها الوحيد، بعد رحلة عناء مع العلاج وسلبية الزوج، كان منزل الزوجية بالنسبة له فندق للنوم وتغيير الملابس، يختفي بالأيام دون أن تعلم أين هو؟ ربما تزوج بأخرى وأصبحت هي الأم والأب مع طفلها الوحيد، شعرت بالحياة أول مرة وهي تلمس ابنها وتداعبه، لم تكن هناك غاية في الدنيا سوى إسعاده وتربيته. مسحت الأم الدمعة وهي تراقب أطفال المدارس مندفعين من مدرسة خاصة . مدرسة ابنها التي كافحت مع الأب البخيل ليتعلم بها ابنها.. ابن واحد .. تعليم مرة واحدة.. كادت تموت عندما رفض الأب فكرة التعليم. باعت ذهبها لتدخله المدرسة، أول يوم في المدرسة كان الفراق الأول، وتضحك كلما تذكرت رجاءها لمدير المدرسة لتكون مع ابنها في الفصل، كانت تخشى أن يصيبه مكروه ، واندمج الابن مع أقرانه اندامجاً لدرجة أنه فضل اللعب عن الدراسة، وابتسم الأب في تشفٍ لقد خسرت أيتها الأم.. بعتِ ذهبك وضاع ابنك سيصبح جاهلاً مثلك، تضرعت إلى الله ودعت كثيراً لكن الابن ظل فاشلاً في التعليم يكره فتح الكتاب، حتى أصبح في الإعدادية ثم حدثت المعجزة، أصبح ابنها من المتفوقين.. لم تصدق نفسها.. أقامت حفلات بمناسبة نجاحه، مسحت دمعة هاربة ومن بعيد ترى تلك القبة إنها تعرفها جيداً إنها الجامعة.. المحطة التي غيرت حياته وحياتها. كلية القمة هدف ابنها، ارتبطت بالجامعة بقوة، حتى أنها أصبحت وحيدة كما كانت قبل أن يولد.. كل هذا يهون.. سنوات طوال ستمر كغيرها ويصبح ابنها من المتعملين الكبار في البلد، ثم تنبهت متأخراً للفتاة.. الفتاة التي قيدت ابنها بحبل الحب.. الفتاة التي أصبحت زوجته الآن.. لاتعلم كيف اجتمعت مع ابنها.. لاتعلم كيف يختلط النار بالماء.. كابوس فظيع.. لكنه حدث، مثل الكابوس الذي تحياه الآن.. ويا له من ألم.. تزوج ابنها الوحيد بفتاة لاترغب فيها.. يوم الفرح الكل سعداء.. وهي حزينة القلب. فعلت هذا لابنها وليس لزوجته، سمحت لهما أن يعيشا في منزلها حتى يدبر شقة الزوجية.. تعلم أن الفتاة تطمع في شيء ما لاتعلم ماهو.. لكنها تعلم أن الحب لايسكن قلبها. يا إلهى لقد تركها ابنها ودفعها نحو مسكن للمسنين، لم يعد يرغب فيها.. الآن أسكره حب زوجته المزيف، أين ذهب كل هذا؟ أين الحب؟ ضاع مع زوجته؟!! ذاب في عمله؟!!. انهالت دموعها كالشلال.. وانتفض قلبها المذبوح وتلاحقت أنفاسها المدكوكة وتوقف كل شيء توقفت السيارة أمام باب دار المسنين توقفت عين السائق في المرآة الداخلية على الأم وقد أدرك.. توقف قلب أمٍ رحيم خرج من بيته.. توقف قلب أمٍ رحيم لم يعرف الخيانة.. لكنه عرف الغدر على يد أقرب الأقرباء.. وأخيراً توقفت الدموع من العينين الجميلتين.. توقفت دموع العمر إلى الأبد. كلمتنا - مارس 2008