إياك أن تظن أن بلدا لا تحترم موتاها يمكن أن تحترم أحياءها، أنت تظن أن العكس هو الذى يجب أن يكون صحيحا، وظنى أنك مخطئ، لن تجد أمة متحضرة تهمل موتاها أو تتجاهلهم أو تسمح بإهانتهم. تذكر كيف كنا نحترم الموتى فى عصور حضارتنا الفرعونية والقبطية والإسلامية، ثم قارن ذلك بما تعرضت له مدافن الموتى لدينا فى الأربعين سنة الأخيرة من انتهاك وإهانة وإهمال؟ لن أذكر لك الآن سوى مثل وحيد تذكرته وأنا أجوب مدافن يحيى أفندى، التى تتوزع فيها المقابر بين غابة من الأشجار الباسقة تطل على مضيق البوسفور، تذكرت مدفن الإمام محمد عبده الذى كان يشترك مع النديم فى التلمذة على يد جمال الدين الأفغانى، وفى حلم الثورة العرابية المجهض، تباينت بهما السبل بعد هزيمة الثورة، وقرر محمد عبده أن يتخذ طريق الإصلاح بعد أن فشل حلم الثورة، ومات فى وطنه معززا مكرما وظل رمزا للفهم الوسطى المستنير للإسلام، كانت تحتاج مصر إليه، لكنها أهملته وأهملت أفكاره وكتبه وسيرته، وهو إهمال تجلى فى أبشع صوره فى العام الماضى عندما نشرت الصحف صورا لمدفنه فى مقابر الإمام الشافعى، وهو محاط بأكوام هائلة من القمامة، ورغم أننى أذعت ما نشر وصورت تقريرا فى «عصير الكتب» عن ذلك، فإن أكوام القمامة تمت إزالتها بعد إذاعة التقرير، ثم عادت لتصبح أضخم وأقبح، ولا أظن حال مدفنه قد تغيرت الآن إلى الأفضل. بلاش، كم من المرات قرأت فى الصحف تحقيقات عن مقابر عظماء مصر التى تحولت إلى نهب للصوص وتجار المخدرات وأغرقتها المياه الجوفية؟ هلا جئت معى إذن إلى مدافن يحيى أفندى لترى كيف تم اختيار المكان بعناية لكى يكون بعيدا عن خطر المياه الجوفية؟ هلا شاهدت كيف توضع على كل قبر علامة تحمل رقما يحيلك إلى سجل يحتوى على معلومات عن المدفونين فى القبر، وتواريخ دفنهم، لكى لا يختلط مكانهم يوما ما؟ المدفونون هنا ليسوا جميعا من المشاهير أو العظماء، ومع ذلك فهناك احترام كامل لآدميتهم، يسمح لبعض العائلات أن تميز موتاها بشواهد أضخم أو أجمل أو أن تتخذ لنفسها ركنا خاصا، لكنك لن تجد قبرا مهملا لأن صاحبه رجل من عامة الناس. فى مكان يطل على البوسفور مباشرة رأيت قبرا كتب على شاهده بخط فارسى جميل «المدفون فى هذا القبر الشريف السيد إسماعيل عبد الباقى توفى غريبا وغريقا وراجى شفاعة النبى العظيم»، على الشاهد كتب تاريخ الوفاة سنة 1290 هجرية، ومع ذلك يبدو القبر كأنه أنشئ بالأمس، يبدو جليا أن يد الرعاية تتعهده هو وغيره بين الحين والآخر، هناك كم من الموظفين يتوزعون فى أرجاء المدافن لمساعدة الزائرين على الوصول إلى مقابر ذويهم، لا يبدو المكان مفرطا فى فخامته كما رأيت فى مقابر إدنبرة مثلا، التى تشعر فيها بوحشة رهيبة، هنا الأمر يختلف، تشعر هنا بالحنين والشجن، لا تشعر أن قلبك مقبوض، يشجعك المكان على أن تفكر فى أخطائك التى يجب أن لا تكررها فى المستقبل، يشجعك على أن تسأل عن جدوى أشياء كثيرة تتصارع عليها مع البشر، هنا تجربة صوفية عميقة تزلزل وجدانك، لكن هنا لن تجد عبد الله النديم حتى لو بحثت عنه مثلى لساعات. لم أشعر ولو للحظة، رغم جمال المكان ورقيه، أن عبد الله النديم يستحق أن يظل هنا، حتى لو كان مصير قبره مهددا بأن يلقى نفس مصير الإمام محمد عبده وغيره، مسألة استعادة عبد الله النديم بالنسبة لى ليست رمزية، هى مسألة تتعلق بالجوهر، بما ينبغى أن تكون عليه مصر بعد أن وضعت قدميها أخيرا على الطريق الصحيح، تاريخنا لا يصح أبدا أن نتعامل معه بمنطق (الحى أبقى من الميت)، لا سبيل إلى حاضر يحترم آدمية الإنسان ومستقبل يحقق تقدم الوطن من دون ذاكرة وتاريخ وإحياء لسيرة الموتى وكفاحهم وما ناضلوا من أجله، لم أجد عبد الله النديم فى مدافن يحيى أفندى رغم استعانتى بموظفى المدافن الذين قالوا إن الأمل الأخير يمكن أن يكون فى دفاتر المدافن التى توجد فى مكاتب المشرفين عليها، وهو ما يتطلب جهدا رسميا يمكن أن تبذله حكومتنا إذا أرادت أن تضرب مثلا على أننا سنعود ثانية لنعرف قيمة تاريخنا وأهمية رموزنا، كنت قد قرأت فى أحد أجزاء كتاب (سنوات قبل الثورة) للكاتب صبرى أبو المجد عن محاولة تبناها عام 1977 لإعادة تكريم رموز الثورة العرابية الذين حاصرهم الإهمال والتهميش، وتمت مصادرة ممتلكاتهم، وكان من بين ما طالب به استعادة رفات النديم، وتمت مخاطبة الرئيس السادات بذلك عن طريق وزير اسمه يحيى الجمل، الذى ستقرأ فى الكتاب نص الخطاب الذى أرسله إلى أبو المجد يبشره بموافقة الرئيس، وها هو السادات قد مات وجاء بعده مبارك، وخرج الدكتور يحيى الجمل من الوزارة ثم دخلها بعد أكثر من 34 عاما، ولم تنجح مصر فى استعادة النديم، ولم يتم تكريم رموز الثورة العرابية، وما زال المصريون لا يعرفون شيئا عن الأبطال الحقيقيين لثورة 19، ولا يعرفون شيئا عن انتفاضتين من أجمل وأشجع الانتفاضات الشعبية فى 1935 و1946، لتروج بينهم الأفكار البلهاء عن خنوع المصريين وذلتهم وخضوعهم الذى انتهى بثورة يناير، مع أنها لم تكن سوى حلقة فى حلقات كفاح هذا الشعب ستتواصل حتى ينتصر. وسط القطط التى تملأ المقابر بكثافة لكى تطرد الهوام والحشرات عن المقابر، جلست أتذكر سيرة النديم بعد أن يئست من العثور على قبره، أخذت أطالع شاهد قبر يحمل تاريخ 1314، وقد كتب عليه بخط فارسى جميل (لا خلاص من الموت.. الله باقٍ) ثم كتبت تحت تلك العبارة الرهيبة أبيات جميلة من الشعر «قضى وطرا مَولى الجميل وربُّه.. سليلُ المُرجّى من ولا شك مُسعدُ.. حليفُ العلا الشهمُ الوفىّ أخو التُّقى.. وأكرمُ من قد كان يُرجَى ويُحمدُ.. أقول ودمعى فوق خدى ساكبٌ.. وقلبى من نار الجوى يتوقّدُ.. على قبره الرحمات مُذ حَلّ أُرِّخت.. يُنعّم ضيفُ اللهِ أحمدَ أسعدُ»، جلست أنقل الأبيات قائلا لنفسى لعلنا عندما نستعيد النديم إلينا نكتبها على شاهد قبره الذى سنشيله فى حبابى عينينا، ونحيطه بمتحف يحكى قصة كفاحه العظيمة من أجل الشعب المصرى. أخذت طريقى إلى الخروج من المقابر، وأنا أقرأ الفاتحة للنديم، ولكل أبناء مصر الذين جاهدوا من أجل أن تكون بلادنا تحترم إنسانية مواطنيها أحياء وموتى، وقد رحلوا إلى جوار ربهم دون أن يروا بشائر النصر وهى تحل على مصر، لكنهم كانوا على يقين بأن الله لن يضيع هذه البلاد أبدا، وقد كان، ولن تضيع هذه البلاد أبدا مهما ظن الباطشون أو المتآمرون أو اليائسون. اقرؤوا الفاتحة لعبد الله النديم، وطالبوا باستعادته إلينا رفاتا وسيرة ومعنى. المصدر : جريده التحرير